مستجدات الأحداث

No More Articles

الخمور على موائد السياسة في اليمن .. السيطرة على السلطة بالدسائس والمؤامرات!

المرصاد نت - متابعات

 في العام 1877م وبالتحديد في 22 أيلول/سبتمبر منه الذي كان يصادف شهر رمضان أراد الرحالة الإيطالي رينزو مانزوني قياس انفتاح الريف البدوي الجنوبي في اليمن على الحواضر آنذاكAden airport2019.8.8 فأجرى هذه المغامرة: دعا ثلاث راعيات بدويات لشرب الكحول أثناء قيلولته في أحد حقول منطقة الحوطة التابعة لمحافظة لحج جنوب اليمن. سألته الفتيات: ماهذا؟ فرد عليهن: خمر. فما كان منهن إلا وجرعن منه فوجدنه قوياً ولكنه ممتازاً وقلن: "مليح كثير".

وبعد زيارته لصنعاء أورد مانزوني في كتابه "اليمن" وصفاً لدكاكين اليونانيين التي تبيع كل شيء، ومن بينها جميع أنواع الكحول من نبيذ وبيرة وانتهى إلى شرب نخب على صحة تركيا، فيما بادله حاكم صنعاء إسماعيل حقي باشا الأنخاب بشربه كأساً في صحة الملك الإيطالي فكتور إمانويل الثاني.

في الوقت ذاته كان الفلاحون في "قاع الحقل" بمديرية يريم محافظة إب في وسط اليمن يموتون جوعاً وهم ينفذون عصياناً مدنياً بالإضراب عن فلاحة حقولهم للاحتجاج على الضريبة الباهضة التي فرضتها الدولة العثمانية على محاصيلهم، ليهنأ الحاكم المظفر ودولته.

وعلى الرغم من عدم إفصاح مانزوني – صراحة - عن الغرض الحقيقي من زيارته، حدد الكتاب المنفعة في علاقة "دولة الخلافة" باليونانيين والإيطاليين، لإمداد المستعمرات العثمانية بالسلعة التي تحرمها عن رعاياها وتقرع كؤوسها في البلاط: الخمرة. وبعد 140 عاماً من هذه الزيارة أحاول قراءة أنخاب الصراع السياسي التي يتجرعها بلد قصي ومنسي كاليمن في تاريخه الحديث.

"شيفاز" حزب الإصلاح

في 19 أيار / مايو 2019م اقتحمت جماعة مسلحة تتبع "حزب الإصلاح" (الإخوان المسلمون) منزلاً ريفياً لمحافظ تعز السابق في الريف الشرقي لمدينة تعز. أقيل المحافظ من منصبه في بداية كانون الثاني / يناير 2019م بعد ضغوط سياسية مورست على هادي من قبل "حزب الإصلاح" الذي يفرض سيطرة عسكرية على مدينة تعز. وكان الرجل قد تعرض أثناء تنصيبه محافظاً لتعز في خريف العام 2017 لحملات تكفير بسبب خلفيته العلمانية وكونه تكنوقراطياً وعدم انصياعه لتنفيذ أوامر قادة عسكريين مدعومين من نائب رئيس الجمهورية، علي محسن الأحمر، الساعي لتمكين "الإصلاح" من المدينة المنكوبة.

قوبل اقتحام منزل المحافظ السابق بالاستهجان من قبل يساريين وقوميين رأوا في الفعل سلوكاً شائناً للثأر من الخصوم السياسيين ما حدا بالجهة المنتهِكة إلى استخدام سلاح تلجأ له عادة القوى اليمنية المعادية للتحديث: سرّب المعتدون على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لصفوف من قناني ويسكي"شيفاز ريغال" قالوا إنهم وجدوها في منزله.

علق كمال شعلان وهو نقيب "الموالعة" (متعاطي القات) في تعز على هذا الخبر بالقول:

- وماذا عن الفتاتين الفرنسيتين هل عثرتم عليهما؟

"الغداء الأخير"

في 28 نيسان/ إبريل المنصرم أعدت قناة الجزيرة فيلماً وثائقياً عن اغتيال الرئيس اليمني إبراهيم الحمدي (اغتيل في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1977) حمل عنوان "الغداء الأخير". ومع أن الفيلم أكد ما هو الأكثر رسوخاً في الذاكرة السياسية اليمنية من أن مؤامرة الاغتيال تقف وراءها السعودية فهو ألمح بطريقة إلتوائية عابرة إلى القبائل التي كانت لها المنفعة القصوى في الإطاحة بمشروع الدولة اليمنية الحديثة.

فدولة الحمدي قلصت دور الزعيم القبلي النافذ عبد الله بن حسين الأحمر 1933) - 2007 ) إلى حدود إقطاعية حاشد (شمال اليمن) وقلّمت أظافره في الدولة والجيش ما دفعه بالتعاون مع قوى يمينية وعسكرية إلى التحالف مع السعودية التي دبرت "الغداء الأخير"، لرئيس الجمهورية اليمنية حينها. ولأن الأحمر ترأس بعد عام 1990 "حزب الإصلاح" فقد تجنب الفيلم الوثائقي ذكره لوجوده داخل المحمية التي ترعاها وتحرسها دولة قطر.

أما وقد أعاد الفيلم إبراز لجوء القائدين العسكريين – آنذاك - علي عبد الله صالح 1947) - 2017) وأحمد الغشمي (1935 - 1978) للدسيسة بوضع قناني ويسكي وفتاتين فرنسيتين مقتولتين بجانب جثة الرئيس المغدور، فقد عمدت قوى مسلحة من الإخوان المسلمين المدعومة من قطر بعد ثلاثة أسابيع من بث الوثائقي، للغة الدعاية نفسها، مبررةً اقتحام منزل المحافظ ، بوجود قناني من الويسكي في أقبيته.

حانة الحلاقة

يتذكر (ز. ع) هذه الحكاية من زمن الرئيس عبد الرحمن الإرياني (1910 - 1998) وهي تحكي عن حلاق يدعى "ساري" ويمتهن إلى جانب الحلاقة، بيع الخمور. وكان لا بد لزبائنه أن يغادروه وهم يخفون في ستراتهم قناني الخمرة حتى صار الناس منشغلين برؤوسهم كما لم يحدث من قبل.

بلغ الرئيس الإرياني وهو الرئيس المحافظ مقدار الشعبية التي صار يحظى بها مواطن يعمل في مهنة موصومة اجتماعياً فاستدعاه إلى مقر حكمه وهناك زجر الرئيس الحلاق، فرد الأخير:

- سيدي الرئيس هل تدري أنه لولاي لما كنت أنت على هذا الكرسي.

أستغرب الرئيس ما يقوله مواطنه البائس ذاك فسأله:

- وكيف ذلك؟

رد عليه:

- إنني أشغل شعبك بالخمر عن التفكير بالانقلاب عليك.

جدتي عارفة

أطاح "الانقلاب الأبيض" في عام 1974م وكان بقيادة الجنرال إبراهيم الحمدي (ترأس اليمن الشمالي في الفترة 1974-1977) بالرئيس عبد الرحمن الإرياني الذي صعد هو الآخر إلى السلطة بالانقلاب على الرئيس عبد الله السلال أول رئيس للجمهورية. شعر الكثيرون بالغضب من هذا التصرف واعتبروه انقلاباً على أول سلطة مدنية بعد "ثورة سبتمبر 1961" ومن بين هؤلاء الشاعر عبد الله البردوني الذي كتب قصيدة: "هذا انقلاب، جدتي عارفة".

بعدها بثلاث سنوات فقط وبينما كان البردوني ينزل ضيفاً على فندق الأموي بالعاصمة السورية دمشق كانت مجموعة من المتآمرين تقتل الرئيس الحمدي باستدراجه إلى مائدة طعام. فكتب الشاعر اليمني الكبير قصيدة رثاء أسماها "صنعاء في فندق أموي" قال فيها: "طلبت فطور اثنين قالوا بأنني وحيد فقلت اثنين، إن معي صنعاء".

سلطة المتآمرين

صعد الزعيمان العسكريان أحمد الغشمي (رأس اليمن الشمالي في الفترة 1977-1978) وعلى عبد الله صالح (رأس اليمن في الفترة 1978-2011) إلى منصب الرئاسة كمكافأة لانخراطهما المباشر في المؤامرة الإقليمية لتصفية سلفهم الرئيس إبراهيم الحمدي.

حينها صاغ المتآمرون البيان الأول وضمنوه الرواية المفبركة التي سعوا من خلالها إلى وضع سياق أخلاقي للجريمة: أحضرت فتاتان فرنسيتان، وقناني ويسكي إلى مسرح الجريمة بما يوحي أن رئيس البلاد قتل أثناء حفلة مجون. لم تنطلِ هذه المسرحية على العامة، وبعد فترة وجيزة أشير للقتلة بالأصابع فأمضوا حياتهم يحملون هذه الذكرى ككابوس.

ومع محاولته استخدام الخمرة لتدنيس خصومه عرف الرئيس صالح بصلاته الوطيدة مع مهربي الخمور وتجاره.

عين الرئيس الحمدي الضابط علي عبد الله صالح منتصف سبعينات القرن الماضي قائداً للواء تعز العسكري ومقره معسكر خالد بن الوليد بميناء المخا الاستراتيجي لما عرف عن صالح من الشجاعة والإقدام، حتى لُقِّب "تيس الضباط". تمثّل تعز حجر الزاوية بالنسبة للملاحة الدولية لموقعها المطل على مضيق باب المندب ومرفأ المخا التاريخي الذي ينسب إليه الفضل في تصدير القهوة (موكا) التي عرفها العالم. وتكون تعز بذلك حلقة وصل بين آسيا وأفريقيا، إلى جانب دورها المحوري سواء في الاستقرار أو في الاضطراب السياسي الداخلي لكونها خزاناً بشرياً رافداً للدولة، مما حمل النظام العسكري للاعتقاد بأن صالح جدير بهذه المهمة.

واجه صالح تحديات في صميم عمله منها التهريب الذي كان عليه مواجهته. لكنه بدلاً من ذلك انخرط هو وقواته المدربة تدريباً عالياً، في علاقة شراكة مع مهربي الخمور من القرن الإفريقي إلى اليمن. ومع أن طرق التهريب سبقت لمعان نجم صالح إلا أنها اكتسبت زخماً أكبر بتهيئة الأجواء لها. ودخلت –وهي ظاهرة تستحق الدراسة - أريافاً محافِظة تابعة لقبائل الطوق الغربي للعاصمة في تجارة الخمور بسبب اِلتحاق أبناء هذه القبائل بالقوات المسلحة.

وبعد أن طال صالح قمة هرم السلطة مكّن بعد عام 1994 قوتين ضاربتين من مواصلة هذه المهمة وهما اللواء 32 مدرع بقيادة الجنرال (ض) الذي يحكم السيطرة على مثلث التهريب البحري المهم أبين- لحج -تعز وهو نفسه مالك فندق في تعز ستروى قصته واللواء 31 مدرع بقيادة (ق) الذي يسيطر على مدينة عدن وبقية الساحل الجنوبي للبلاد، ويملك فنادقاً وشاليهات كبيرة يتقاسمها مع (ط) الذي تقلد منصب مدير أمن عدن. رافق هذه السيطرة الإبقاء على قوانين تجريم تعاطي الخمر وتداوله والاتجار به ليكون حكراً على السوق السوداء التابعة لسلطة صالح.

صالح في المخيلة الشفاهية

تأتي المخيلة الشعبية الشفاهية على هذه الفترة بحكاية تتحدث عن إفريقي كان يعمل في بيع الخمور من القرن الإفريقي إلى اليمن في السبعينات الفائتة. وأنه وفي فترة الاستقرار التي سادت جنوب شرق إفريقيا توقف الإفريقي عن بيع الخمور وتحول لتجارة أقل مخاطرة حتى أتت فترة التسعينات حيث شهدت إفريقيا اضطرابات اضطرت صاحبنا الإفريقي للعودة لبيع الخمور إلى اليمن.

عبر الرجل البحر على ظهر "صنبوق" (قارب خشبي تقليدي صغير) إلى ميناء ذوباب بالقرب من باب المندب وهناك احتجزته سلطات الجمارك في أحد مكاتبها وطلبوا منه مبالغاً مالية كبيرة، حتى يستطيع إدخال خموره إلى البلد وبيعها.

تلفّت الإفريقي حائراً فرأى صورة الرئيس صالح تتصدر الجدار أعلى مكتب المدير. فقال وهو لا يعلم أن الذي في الصورة صار رئيساً لليمن:

- جيبو (أحضروا) لي هدا (هذا) الفندم أتفاهم معه فهو كان طيب ياخذ 50 (يكتفي ب50 ريال) لكن أنتم 500 ريال ما تريدون (لا تكتفون بها).

تجارة الكبارsasdaaaas234324

وفي العام 2008م دخلت البلد في حالة انسداد سياسي بعد فشل حوار السلطة مع مكونات المعارضة فرأى صالح في المكون الديني فرصة جديدة لجعل انتخابه "مهمة مقدسة". اجتمع برجال دين سلفيين، ومنحهم في منتصف تموز/ يوليو، صلاحية تشكيل شرطة دينية تحت مسمى "هيئة الفضيلة"، ووضع على رأسها رجل الدين السلفي عبد المجيد الزنداني. في اليوم التالي باشرت الهيئة عملها بإغلاق 3 مطاعم صينية في العاصمة، كانت تقدم مشروبات كحولية لزبائنها، ثم اتجه "المحتسبون" غرباً، إلى محافظة الحُديدة، المفقرة إفقاراً مدقعاً، ليمارسوا نشاطاتهم ضد ما سموه "أوكار الدعارة والخمور".

في العدد الخامس من مجلة "أبواب" آب/ أغسطس 2008م تجادل السلفي عبد الملك التاج عضو هيئة "الفضيلة"، مع الصحافي ذو التوجه الليبرالي نبيل سبيع. قال سبيع أن الهيئة لن تستطيع الاقتراب من موضوع الخمور ولا من مهربيه لأنها "تجارة الكبار". التاج أكد هذا الأمر لكنه قال إن إغلاق محال تروج فيها الخمور شرفٌ لا يدعيه.

شرطة، وملتحون، وفودكا

(د. د.) أحد المحامين الذين انتقلوا بفعل الحرب من محافظة إب إلى العاصمة صنعاء رمى لي بهذه الحكاية لأحد موكليه السكارى: في نيسان/ إبريل 2009، التقيت الشرطي حميد. ع (35 عاماً) الذي اتهم بحيازة قنينة خمرة وأودع سجن البحث الجنائي بمدينة إب (وسط اليمن).

كان السجين يقبع في الزنزانة الشرقية رقم (4) وينكسر على شعره الأشعث القمحي شعاع شمس الأصيل الذي يتسرب من كوة علوية مستطيلة أعلى رأسه. دنيت لأحاوره فشممت الرائحة الحامضة لفمه سألته:

- ما تهمتك؟

قال:

- بيبسي.

لم أفطن لمقصده، فرمى محبطاً كل أوراقه:

أنا جندي أمن أعمل بقسم شرطة في العاصمة صنعاء وتلقيت قبل شهر دعوة لحضور حفل زفاف في مدينة إب. ولأنني أعمل في جهة ضبطية فقد أدمنت شرب الخمرة التي نصادرها من السكارى في نقاط التفتيش.

وتلك الليلة أخذتُ قنينة "جين" ماركة "الملك روبرت الثاني" ضبطناها مع أخرى في نقطة بمدخل العاصمة وكانتا في كرتون بسكويت لشابين في منتصف العشرينات فقررت تمضية حفل الزفاف بها. اتجهت لمحطة سيارات "البيجو" واستقليت إحداها. وصلت مدينة إب صباحاً فتذكرت القنينة المحشورة في حقيبة ملابسي وما قد تسببه لي من متاعب لو أوصلتها إلى المنزل فانسحبتُ إلى سور المجمع الحكومي وأوهمت المارة أنني متقرفص للتبول.

وبينما كنت أقوم بتبديل قنينة "الجين" بصبها داخل عبوة مياه معدنية لمحني حارسان في بوابة المجمع فتوجها نحوي مسرعين. ألقيت القنينة الفارغة على الجدار فتحطمت وحثثت الخطى إلى الشارع العام وهناك دلفت المقصورة الأمامية لأقرب حافلة عامة وتفاجأت أن الحارسين صارا بالكرسي خلف ظهري فرميت العبوة بمشروبها عند الكابح بين ساقي سائق الحافلة الملتحي.

أوقف الحارسان الحافلة فترجلتُ وعندما لم يريا العبوة أوهمتهما أنني رميتها بين حشائش عين الجمل بجانب السور. حملاني إلى نوبة حراسة المجمع، وعندما لم يجدا شيئاً يدينني بحيازة الخمرة أو شربها، هَمّا بعد دقيقتين بالإفراج عني.

أخرج أحد الحارسين مفتاح القيد في اللحظة التي عاد فيها السائق الملتحي بحافلته إلى بوابة المجمع وناول الحارس العبوة الممتلئة بالمشروب الكحولي وغادر. تمّ تسليمي لإدارة البحث الجنائي، وهناك عُرضت العبوة المحرزة وطُلب مني الإقرار بحيازتي للعبوة، رفضت وقلت لهم:

- هذه العبوة ليست لي. عبوتي ممتلئة بالشراب.

وبحسب السجين فإن النيابة العامة طلبت منه خلال التحقيقات عقد صفقة: الإقرار بشرب الخمرة مقابل التسريع في قضيته.

قال والحزن يعلو ناصيته:

- رفضت الصفقة. ليس لأنني لا أتعاطى الكحول، وإنما لأنه حين قُبض علي لم أكن قد ذقت قطرة من المشروب.. وهم وقد شربوا ثلثي العبوة ،ويريدون إدانتي بالسكر.

يواجه حميد تهمة اقتراف فعل جنائي جسيم قد ينتهي به إلى قضاء سنتين في السجن إذا أدين بحيازة الخمرة. سألت السجين قبل أن أغادره:

- هل أنت ثمل الآن؟

قال وهو ممسك بكيس حراري فيه مشروب فودكا:

- نعم، هل تريد رشفة؟

هززت رأسي بالرفض، وسألته:

- من أحضره لك؟ فرد:

- لديهم وسائلهم لا قلق، كل شيء هنا من الحشيشة إلى الشمة (سعوط) إلى القات إلى الفودكا إلى التمبل، والخدمة خمسة نجوم.
صداع الخمرة الرديئة

في29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010م سرّب موقع ويكليكس وثيقة استخباراتية تابعة للخارجية الأمريكية عن لقاء جمع الرئيس السابق علي عبد الله صالح بالقائد الأمريكي لعمليات الشرق الأوسط الجنرال ديفيد بيتراوس. وصفت الوثيقة صالح بأنه كان في ذلك الوقت ذا مزاج منشرح وأضافت أن "هذا الحاكم المستبد لبلد مسلم محافظ اشتكى للقائد أيضاً من عمليات التهريب التي تأتي من جيبوتي، قائلاً له: أنا قلق من تهريب المخدرات والأسلحة وليس الويسكي.. خصوصاً إذا كان ويسكي من نوعية جيدة".

انفجرت ثورة "11 شباط / فبراير 2011" بعد هذا بأسابيع قليلة فأرسل صالح في الأول من آذار/ مارس رجل الدين السلفي ورئيس "هيئة الفضيلة" عبدالمجيد الزنداني مبعوثاً له للوساطة لدى الثوار الذين افترشوا الأرصفة وكان متيقناً من فاعلية الخطاب الديني في دغدغة مشاعر جيل كامل يهتف للخبز والحرية.

صعد الزنداني إلى منصة ساحة الثورة وتناول الميكرفون ليشرع بمهام "النوايا الحسنة" لإنقاذ النظام المحتضر فهاله حجم الحشود وحماستها فقال في لحظة زهو:

- الثورة براءة اختراع.

وكان بهذه العبارة الموجزة يشير إلى منظومة توهّمات طويلة اعتاش عليها ابتدأها باكتشاف علاج لمرض الإيدز وأنهاها بابتكار علاج لمرض الفقر. إذاً، مع كل براءات الاختراعات التي حازها تبقى الثورة واحدة من الاكتشافات التي سُجلت براءة اختراعها لدى فضيلته.

بهكذا بساطة خلع رجل الدين جبة الحاكم ونصّب نفسه ثائراً عليه وقد رأى أمور الثورة لا تستقيم إلا بالقطيعة الجذرية مع الماضي. غادر الزنداني صنعاء بعد عشرة أيام من تعميده ثائراً للاحتماء بسلاح عصبيته القبلية وقد استنجد بقبائل "أرحب" المسلحة شمال صنعاء حيث الأعراف تأتي أولاً.

الخمور على موائد السياسة في اليمن: حديث في السيطرة على السلطة بالدسائس والمؤامرات..

الجزء الثاني من رصد الباحث لوقائع اليمن السياسية والسوسيولوجية من خلال العلاقة بالخمور تهريباً وتسويقاً واستهلاكاً واستخداماً في الابتزازات بين المتصارعين.. ونفاقاً!

في محافظة تعز وسط البلاد وحتى عام 2011م أشتهر فندق (ق.ر) التابع للجنرال (ض) قائد اللواء 32 مدرع بكونه حصناً منيعاً لبيع قناني الخمرة المهربة. يقع هذا الفندق أسفل الامتداد الشمالي للهضبة التي تضم الحرم الأمني للقصر الجمهوري بالمدينة. يباع الخمر في هذا المرفق من شباك صغير يطل على حديقة مزروعة بأشجار المانجو والباباي وتعتليه صورة طويلة مجسمة للرئيس صالح. يصف الباحث (أ. إ) أجواء المكان الذي زاره أكثر من مرة كان آخرها عام 2009م.bab al yaman 2019.8.8

- يقف المرتادون في صف متباعد صامت. كان هناك سكير نحيل تبدو على ملامحه معالم قلق وتستقر قطرات عرق على محجري عينيه. يعبر السكير الصف يسألهم فرداً فرداً مشاركته في شراء قنينة فهو لا يملك سوى نصف السعر، والفندق لا يتعامل بأنصاف القناني.

ويَقسم الباحث وهو متخصص في السوسيولوجيا صف المشترين للكحول إلى ثلاث مجموعات: فئة السياسيين والجنود وفئة الطبقة الوسطى المتآكلة واللاهثة وراء أرستقراطية واهمة وفئة العمال الذين لم يغادروا طقوس النصف الثاني من القرن العشرين. ويضيف: ترابط مقابل بوابة الفندق عربة عسكرية نوع "شبح"، من قوات الأمن المركزي التابعة لنجل شقيق صالح (يحيى صالح)، وينتصب عليها سلاح معدل (12/7) مغطى بالمشمّع، ويجلس في مقصورتها جندي وموظف تحويلة، يدخنان ويمضغان قاتهما كالإبل المستجِرَّة. إنهما يرقبان الحركة الخجولة لزبائن الفندق.

ويعتبر (أ) أنه وبقدر أهمية هذه الحراسة في تأمين الفندق من الهجمات المحتملة للمتطرفين، فهي مناط بها المهمة موضع الجدل: يقوم موظف التحويلة في العربة العسكرية بإلقاء تحية، بهزة خفيضة من رأسه للسيارات الجيب العسكرية وسيارات التويوتا الضخمة والمعكسة النوافذ، المغادِرة للفندق بحمولتها، وإبلاغ نقطة التفتيش في "جولة" (دوار) القصر على بعد ياردة جنوب الفندق، لتسهيل مرور هذه العربات. وإلى جانب تأمين محاباة رجال الأمن للفئة الأولى التي يغادر أفرادها القصر بحمولاتهم كان من المهم التعرف على هوياتهم من خلال أرقام لوحات مركباتهم لأغراض مستقبلية تتوخاها السلطات العليا.

وتبقى الفئتان الأخيرتان وهما الأكثر هشاشة في هذه المعادلة.. فأصحاب المركبات المدنية العادية، والعمال الراجلون بسيقانهم الحنفاء، ينتهون كطرائد مشروعة لنقطة التفتيش ومن ثم لقوانين حفظ النظام. فعند مغادرتهم لعتبة سور الفندق، يتذرع الجنديان بالانهماك بأكياس القات، ثم وقد صارت المسافة بين الطرفين قابلة للمناورة، يبلغ موظف التحويلة نقطة التفتيش المعلومات المفصلة عن المركبات وأرقامها، والعمال وأرديتهم، ليتم إيقافهم والشروع بمباحثات على جانبي الطريق، تخرج معها مسرحية رجال القانون على النحو التالي:

يصعد الجنود إلى المركبات، فإذا وجدوا مالكها من ذوي التعليم المتوسط يهددونه بالمحاكمة، فإذا نجح في عقد صفقة معهم، يتم إطلاق سراحه مقابل نهب قنينته الكحولية وما يمتلكه من مال. وإذا تشبث بمشروبه، ينقل إلى جهات الاختصاص لمباشرة التحقيق معه في ارتكاب الجرم الجسيم.

الدستور كرشوة

أقر دستور الوحدة المستفتى عليه عام 1991م في مادته الثالثة الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً للتشريع، فيما كفلت المادة 23 منه الحريات الشخصية لليمنيين، وحماية الدولة لها. غير أنه، وفي العام 1994، وبعد هزيمة الحزب الاشتراكي المسيطر جنوباً، جعلت الشريعة الإسلامية مصدراً وحيداً للتشريع، وتم إلغاء المادة 23 كرشوة للإسلاميين الذين ساندوا صالح بالسلاح والفتاوى. وبذلك تمّ تعديل قانون الجرائم والعقوبات ليُلحق شرب الخمر وتعاطيه وحيازته بالجرائم الجسيمة.

وبقدر ما عارضت الأطراف الإسلامية الوحدة اليمنية التي وقعت بالفعل في 22 أيار/ مايو عام 1990م بحجة "حرمة الاتحاد بالجنوب الماركسي الملحد" أصدرت في 1994 فتوى تحرّم الانفصال وتبيح للقوات المهاجمة استباحة رجال ونساء وأطفال الجنوب. ويعتبر المحامي (د.د) أن قوانين الخمر صممت لتناسب الأغراض السياسية حيث يفقد المدانون بهذا الفعل جزءاً من أهليتهم القانونية والاجتماعية، فلا يحق لهم الشهادة أمام المحاكم، ويمكن بسهولة الطعن بأهليتهم في حال رشحوا لشغل مناصب سياسية وخدمية.

بيرة "صيرة"

أنشئ مصنع "صيرة للمشروبات الوطنية" بمديرية المنصورة، مدينة عدن، في ثمانينيات القرن الماضي وخصص لإنتاج مشروبات كحولية محلية ومن ذلك جعة صيرة الشهيرة. وسط النقاشات التي أفضت إلى الوحدة يتذكر الكاتب الصحافي محمد العصار دعابة سياسية وردت على لسان الشخصية السياسية عمر الجاوي الذي سُئل: لماذا مصنع "البيرة" لا يزال مفتوحاً بالرغم من الوحدة. فرد بما عرف عنه من الفطنة: ليس لدينا من البيرة في الجنوب غير الماء أما الشعير فيأتي من منطقة جهران بمحافظة ذمار الشمالية.

وبعد الوحدة اليمنية دار جدل بين أعضاء أول مجلس نواب وحدوي بعد اعتراض أعضاء من حزب "الإصلاح" على وجود ميزانية للمصنع بذريعة مخالفة ذلك للشرعية الإسلامية التي هي المصدر الرئيس للتشريع.

رجل الدين السلفي عبدالمجيد الزنداني وقد عاد من تغريبته "القبلية" وأصبح في حماية "الفترة الانتقالية" أعاد في تموز/ يوليو 2013 هذا الجدل إلى الواجهة، وقالت "هيئة الفضيلة" التابعة له أن مؤتمر الحوار الذي عقد في آذار/ مارس 2012 يريد أن يعيد دستور "الوحدة" مطالباً بإبقاء دستور صالح الذي يتضمن الشريعة مصدراً وحيداً للتشريع. وكان الرئيس عبد ربه منصور هادي قد رفض مقترحاً بضم أعضاء "هيئة الفضيلة" للمشاركة في الحوار ما جعل رجال دين يصعّدون من لهجتهم تجاه مخرجاته. وقالت الهيئة أن برلمان ما بعد الوحدة الذي كان يرأسه الدكتور ياسين سعيد نعمان حاول تمرير ميزانية مصنع "صيرة" للخمور وأنه كان لاعتراضهم أثر في إيقاف هذا الأمر الذي اعتبروه مخالفاً للشريعة الإسلامية.

رد نعمان - وكان حينها يشغل منصب الأمين العام للحزب الاشتراكي - بحدة على الزنداني وقال أن ميزانية المصنع تمّ حلها خارج مجلس النواب بإسقاط اسم المصنع وإبقاء ميزانيته ملمحاً إلى وقوف سلطة صالح على مصانع للخمور في إفريقيا وأنها ظلت تدخل إلى البلد دون أن تدفع ضرائب. وأوضح نعمان أنه وبعد حرب 1994 نُهب المصنع وسُلِّمت معداته لأيد أمينة، في إشارة إلى أن سلطة صالح تقف وراء هذا الأمر.

وعلى الرغم من البروباغندا الرائجة والتي تلصق شرعنة شرب "الخمور" باليسار اليمني حصرياً يوضّح "ع" وهو ينتمي إلى "الديمقراطي الثوري" أحد الفصائل التي شكلت قوام الحزب الاشتراكي بعد العام 1990م بأن فصيله يتبنى لائحة داخلية صارمة تحظر على الملتحقين فيه تعاطي الكحول. ويرى هذا الفصيل أن الرجل الذي يشربها أو يجري خلف غرائزه الجنسية غير مؤهل لأن يقود المجتمع باعتبار هذين الأمرين ينعكسان سلبياً على شخصيته وعلى سعيه للصالح العام.

معارك مقدسة

وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قد وثقت نهب مصنع صيرة في تقريرها الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر 1994 وهو يقع في 30 صفحة. وقد ورد فيه أنه "وبالرغم من أن نسبة الضرر الذي ارتكبه الإسلاميون وأعضاء حزب الإصلاح (بعد دخول قوات صالح إلى الجنوب وهزيمة الاشتراكيين) كان بسيطاً نسبياً مقارنة بالدمار الشامل الذي قام به آخرون، إلا أنه أثار الانتباه لأنه استهدف ما يعتبرونه رموزاً للانحطاط والتغريب، ومن بينها مصنع صيرة بمديرية المنصورة.

وكان مسؤولون في عدن الجنوبية قد أعلنوا في حزيران/ يونيو 1994م وبسبب دعاية الحرب الشمالية أن المصنع والذي تبلغ أرباحه آنذاك (عام 1993) 8 ملايين دولار سيتحول إلى مصنع للمشروبات الغازية. (المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية باريس 27 حزيران/ يونيو 1994). وبحسب تقرير هيومن رايتس فإن ما حدث فعلاً لمخازن الكحول وفي مصنع صيرة هو أن المليشيات الإسلامية (ويدعون بـ"المطوعين") قدموا إلى المصنع بحسب شهود عيان بعد تدمير معداته بواسطة جنود حكوميين. وقال صحافي شاهد الحريق وهو يلتهم المصنع أن ضابطاً برتبة مقدم في الجيش الحكومي قال له في المكان "أن الجنود الحكوميين أضرموا النيران في المصنع". وأضاف أن ألسنة النيران كانت بارتفاع 80 قدماً. وزعم مراسل ل"صحيفة الثورة" الرسمية متأسفاً، أن الحريق حدث بطريقة غير متعمدة حيث حصل إطلاق نار "أشعل الكحول في البيرة".

وكان جعبل طعيمان أحد أعضاء مجلس النواب وينتمي لحزب الإصلاح قد قال حينها للمعارض السياسي عمر الجاوي من حزب "التجمع" ذي التوجه اليساري إنهم فخورون بحرقهم مصنع صيرة وكل البيرة المعبأة فيه وأن "المناقشات جارية لتحويل الموقع إلى مسجد". (المصدر: مقابلة مع الجاوي في عدن 19 تموز/ يوليو 1994).

مع ثورة 2011 وانحسار سلطة صالح ارتفعت أسعار الخمور في السوق السوداء إلى مستويات قياسية، وذلك بعد توقف عمليات التهريب وبسبب ارتفاع أسعار الكحول في السوق العالمية، وراج نوع من العرق المصنوع محلياً بخبرات إفريقية وغربية وبسعر رخيص.

قصة قنينة

تشي نوعية المشروبات الكحولية التي تدخل البلد بالطبيعة الاحتكارية لهذا المورد الحيوي. وقد راجت في السبعينات الفائتة ماركات ويسكي اسكتلندي، أشهرها "جوني ووكر" وله تسمية شعبية "أبو عسكري" أو "أبو خطوة" وويسكي "فات 69"، و"هيغ 69" وبلاك أند وايت" وله تسمية شعبية "أبو كلب وأبو كلبين". والجن الـ"دراجون أبو تنين" ويفضله الكثيرون على الويسكي بسبب رائحته العطرة التي لا تشي بشاربه، إلى جانب جن آخر على زجاجته ملصق لزيتون.

وعرف تسويق الخمور في ذلك الزمن بثلاثة مستويات للباعة: الفنادق الكبيرة التي تضم "ميني بار" في غرف نزلائها كما تقدم كؤوساً منه على موائد المطعم. والمستوى الثاني هو الفنادق الصغيرة مثل فندق "س" بصنعاء التابع لأوقاف الحكومة. وتحرص هذه المرافق على بيع الخمور من خلال شباك صغير يطل على البهو الخارجي ويأخذ الزبائن أماكنهم في الطابور بتوجس وصمت. والمستوى الثالث هو في منازل الأسر المتوارثة لهذا التقليد والدكاكين الصغيرة. أحد الذين قابلتهم يتذكر قصة لأحد الباعة الذين كان يشتري منهم مؤونته من المشروب. يقول "ص" أنه كان يذهب لشراء الكحول إلى منزل البائع فيجده مقفياً إلى شباك البيع يحدق في صورة على الجدار المقابل لنجله الذي استشهد في ثورة 26 أيلول / سبتمبر. وعندما يسمع المشتري يلتفت إليه ويناوله مطلوبه ويعود للصورة.

ويعزى التنوع في دخول المشروبات في السبعينات الفائتة إلى عوامل إقليمية منها طفرة النفط وبدء عصر الموضة المرافقة لحالة الرفاه وأيضاً إلى عوامل انفتاح داخلية، منها سيادة حكم الحمدي ذو التوجه العلماني في الشمال، وإرث الاستعمار البريطاني في الجنوب.

ثم ظهرت بعد ذلك بعقد من الزمن ماركات مقلدة رديئة من زجاجات الكحول، لا تزال رائجة إلى اليوم، ويعتقد أنه يتم تعبئتها في مصانع بجيبوتي يستثمر فيها عسكريون مقربون من نظام صالح، ومنها ماركة "تتشر" و"بيلز" و"الملك روبرت الثاني". وكثيراً ما يشار إلى هذه الماركات بين "الموالعة" (المولعين) باعتبارها المشروبات الليلية للصداع الصباحي.

وظلت الخمور في هذه الفترة محافظة نسبياً على سوق تداولها بالتراتبية نفسها التي عرفتها سوق السبعينات مع تغول السلطات القائمة آنذاك بين المهربين للتحكم بهذه السلعة.

واشتهرت التسعينات بثلاث ماركات من الفودكا الروسية هي "استالشنايا" و"متكوفا"، وماركة بريطانية أخرى تدعى "سميرانوف". وشهدت هذه الفترة انحساراً للأطراف المتداولة للخمور، مع امتناع الفنادق عن تقديم هذا المشروب واحتكاره في منازل الأسر المتاجرة به وانسحابه من الوسط إلى الأطراف ومن بينها أسواق الطوق الغربي لصنعاء.

أما الجعة فكان سوقها رائجاً أكثر من الويسكي والفودكا والجن. ومنذ منتصف السبعينات وحتى منتصف الثمانينات من القرن الفائت، دخلت أنواع لا تحصى من علب الجعة. وحصلنا من أحد الذين عاصروا تلك الفترة على حكاية جعة كانت لها تسمية شعبية غريبة في الجنوب وهي "النظام الداخلي".

وهي اكتسبت هذا الاسم من لون علبتها الزرقاء التي تتوسطها نجمة حمراء، فبدت لصيقة الشبه بألوان علم الحزب الاشتراكي! وإلى تلك الثمانينات كانت الأسواق القبلية الصغيرة على جانبي الطريق الجبلي المؤدي إلى الحُديدة تبيع الخمور في رفوفها الأمامية. بعد ذلك استمر بيع الخمور لكن مع إخفائها في الأقبية الداخلية لهذه الدكاكين ثم وبعد العام 2011م صارت هذه الأماكن تبيع اللوز البلدي والحليب الرائب والقات.  مع ثورة 2011 وانحسار سلطة صالح ارتفعت أسعار الخمور في السوق السوداء إلى مستويات قياسية وذلك بعد توقف عمليات التهريب وراج نوع من العرق المصنوع محلياً بخبرات إفريقية وغربية وبسعر رخيص. وتشي نوعية المشروبات الكحولية التي تدخل البلد بالطبيعة الاحتكارية لهذا المورد الحيوي. وتراوح سعر مختلف أنواع الكحول في العام 2007 بين 13 و19 دولاراً للقنينة وسعر علبة الجعة المتوسطة في العام نفسه بين 6 و9 دولار.

أنخاب الدبلوماسية الغربية

وتبقى السفارات الغربية قبل أحداث أيلول/ سبتمبر 2014م مصدراً مهماً لكسر حظر دخول المشروبات الكحولية من المعابر الرسمية للبلد. تحظى الأمتعة الدبلوماسية بالحصانة، بناء على المادة 27 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961م ما سمح بشحن كميات لا يستهان بها من الكحول للاستهلاك الشخصي.

ومع معرفة هذه الممثليات بالقانون اليمني وبتحكم المحافظين في بنوده يحرص السفراء على دعوة مسؤولين حكوميين ومعارضين سياسيين وشخصيات ثقافية وصحافية وقيادات اجتماعية.. للاحتفال بالمناسبات القومية للدول التي يمثلونها. وفي الأروقة الفخمة تقدم ألوان الطعام وتعرض المشروبات الكحولية والعادية على الطاولات ويفتتح الكرنفال بالموسيقى الهادئة والأضواء الخافتة.

يرى السوسيولوجي "أ. إ"، أن هذه الحفلات على كرمها تخفي سلوك هيمنة غربية بحق النخب المستضافة. فممارسة الناس لطقوس تجرمها قوانينهم وعلى أراض يمنية يبدو وكأنه نوع من الحماية، لكنه يمثل في باطنه نوعاً مقيتاً من الاستغلال.

تخفي الحفلات الباذخة في السفارات الغربية سلوك هيمنة غربية بحق النخب المستضافة. فممارسة الناس لطقوس تجرمها قوانينهم، وفي بلادهم، يبدو كنوع من "الحماية" لكنه يمثل أيضاً استغلالاً مقيتاً. وترى السفارات في الكبت الذي يعيشه الناس فرصة لاستمالتهم وسلخهم عن مجتمعاتهم. كما يبهجهم هذا السيرك وهم تواقون لرؤية شعوب لا تسيطر على غرائزها ما يكرس الانطباع الاستشراقي في ذهنية الآخر المتفوق.

فهذه النخب تمارس المتعة بدفع ثمنها من استقلاليتها وحريتها حيث أن هذه السفارات ترى في الكبت الذي يعيشه الناس فرصة لاستمالتهم وربما لشراء ضمائرهم وبالتالي سلخهم عن مجتمعاتهم. كما أن هناك نوعاً من السيرك الذي يبهج الدبلوماسية الغربية التواقة لرؤية شعوب لا تستطيع السيطرة على غرائزها لتكرس الانطباع الاستشراقي في ذهنية الآخر المتفوق.

أحد المدعوّين لهذه الحفلات أدلى بشهادته وقد نزل في العام 2009 ضيفاً على السفارة الفرنسية وشاهد حارساً يسحب شاباً ثملاً حاول مراقصة فتاة "صفراء" (شقراء) مراهقة ليرميه خارجاً.

وبينما كانت الأضواء تنطفئ يولد من الكرنفال اجتماع مصغر بين "الغربيين المتحكمين بأدمغتهم" وبعض اليمنيين الذين عرفوا قواعد اللعب النظيف، لوضع خطة للتعاون والشراكة. وقد أطلق القرويون نيران مدفعيتهم على الثكنات وسط العاصمة إيذاناً بحرب شرسة أسقطت في طريقها أكذوبة الليبرالية الجديدة بزعامة إدارة الرئيس بارك أوباما عن نجاح "النموذج اليمني".

وفي 21 أيلول/ سبتمبر 2014م أفاق الثملون على جماعة لا تقر إلا بشرعة البندقية وتسيطر على مطار صنعاء الدولي كاشفة سيقانها ومشهرة بنادقها الكلاشينكوف على الطائرات المتجهزة للإقلاع، بحثاً عن خصومها الهاربين.

دولة القرويين

مصدر ملاحي في مطار صنعاء تحدث عن وصول أول طرد دبلوماسي بعد فرض الحوثيين طوقاً أمنياً على المنفذ الجوي فقال: "وصلت الطرود المغلفة بالمشمع على الرافعات فأصر المسلحون على تفتيشها. وفي مستودع البضائع تمت مصادرة طواقم القناني الأنيقة وصب محتواياتها في مغاسل الأيدي. ثم بعد ذلك اعتمدوا آلية لإحراق أي مخزون من الكحول في مقلب الأزرقين للقمامة مع مهربات أخرى.

في ظهيرة 3 أيلول/ ديسمبر 2017م أعلن مقتل صالح. واحتاج القتلة لإعلان النبأ إلى 12 ساعة لإخراج مسرحية: نقل مسلحون حوثيون جثمان صالح من منزله وسط صنعاء إلى ضاحية من ضواحي صنعاء على متن عربة عسكرية وصوروا الجثمان الملفوف ببطانية على أنه لرجل حاول الهروب في لحظاته الأخيرة. كشف الأمر صورة غير مقصودة صورها مسلح للجماعة ما حدا بالقتلة لاعتماد الدسيسة ذاتها التي كادها صالح لسلفه الحمدي: نشروا صوراً لواجهة في منزل تعرض أنواعاً من الخمور الفاخرة ولمجوهرات قالوا إنها ضبطت في منزل الرئيس صالح.

ومع أن الأمر لا ينفي ولا يؤكد تعاطي "صالح" للخمرة أخبر "غوغل" الجميع حكاية أخرى: هذه الصور نشرتها الصحافة التونسية لأحد قصور بن علي، وليس صالح.

الخطيئة والمدنس

في كتابها حول "يهود صنعاء"، الصادر عام 2006، بينت الباحثة جميلة الرجوي جانباً من القوانين التي أصدرت في العام 1932 أثناء حكم الإمام يحيى حميد الدين - حكم في الفترة من 1904 إلى 1948 - والتي تضمنت تقنين بيع الخمر وشربه. وحصرت هذه القوانين تداول هذه السلعة باليهود فقط وبإشراف من "عاقل حارة" (حاكم محلي بسلطات عرفية). وهناك حكايتان قديمتان من هذا الزمن وهما على الرغم مما تحملان من ازدراء طائفي، إلا أنهما ترويان في الواقع كيفية مقاومة الشعب اليمني محاولات ربط الخمر باليهود وإلحاقه بـ"المدنس".

تتحدث حكاية شعبية متواترة عن أن الإمام يحيى حميد الدين (1869 - 1948) الذي عرف بالبخل استثنى اليهود من قوانين شرب الخمر وصناعته، بشرط الامتناع عن تقديمه أو بيعه للمسلمين. لكن تناهت إلى مسامع الإمام ذات يوم وشاية مفادها أن بعضاً من حاشيته يرتادون حانة في حارة اليهود بصنعاء ويتنادمون بالخفاء.

استدعى الإمام مالك الحانة وطلب منه قائمة بأسماء الذين يرتادون الحانة من الأتباع. أطرق اليهودي لأنه من الصعب تذكر أسمائهم لكثرتهم، فواتته حيلة، ألهمته القول: سيدي.. ماذا لو أحصيت لك الذين لا يرتادون الحانة؟

الحكاية الثانية تتحدث عن فقدان الإمام يحيى السيطرة على شعبه المسلم الذي صار معظمه مدمناً، ويعمد لإخفاء الخمرة في الأواني الفخارية والخشبية المعدة لحفظ السمن والعسل والقشطة والقهوة. فاتخذ فرداً من مواطنيه اليهود لاختبار المشروبات والتمييز بين العادية والكحولية.

شرع الإمام بمداهمة المنازل آمراً اليهودي بتناول رشفة من كل السوائل المتروكة في الأواني، ليبت في أمرها. .. أتى المساء على اليهودي وقد ثمل تماماً وصار من الصعب عليه أن ينهض على ساقيه، علاوة على حمل الآنية إلى فمه، ولذا طلب مساعداً يتولى مهمة رفع الآنية إليه، للحكم على المشروبات من رائحتها بدلاً عن مذاقها. وكان كلما قرّب المساعد إناءً، يشتم اليهودي محتواه وعيناه مغمضتان، ويكتفي بالقول: "منه منه يا سيدي"، أي من المشروب الكحولي نفسه.

ويسكي أمير المؤمنين

في شهادته لقناة روسيا اليوم على مرحلة حكم الإمام أحمد حميد الدين (1891 - 1962) تحدث البروفسور أوليغ بيريسيبكين السفير السوفييتي لدى صنعاء عام 1959عن محاولة اغتيال الإمام في محافظة الحديدة، جاء فيها ذكر للويسكي. وعلى الرغم من أن الدولة المتوكلية ثيوقراطية كما هو معروف إلا أن ممارسات الإمام أحمد الشخصية لم تكن توحي بذلك.

يقول أوليغ أن الإمام قدم إلى الحُديدة حيث كان كثير التنقل وحين كان في زيارة لمستشفى الحُديدة الذي كان يعمل فيه أطباء سوفييتيون وصل قبله ثلاثة من ضباطه وأطلقوا عليه النار. جزء من حراس الإمام المصاب قاموا بحمله إلى السيارة لنقله إلى القصر وأخذوا معهم الجراح السوفييتي فان جان وكان من أصل أرمني. أما الجزء الباقي من الحراس فقد انقضوا على المتآمرين للقبض عليهم.

ويشرح السفير أنه وبعد إحضار الإمام إلى القصر طلبوا من الجراح السوفييتي أن يقوم باستخراج الطلقات من جسد الإمام لكن الطبيب قال لهم ليس لدي الأدوات اللازمة والمكان غير مناسب لإجراء العمليات الجراحية. فهددوه ووجهوا إليه مسدساً فوافق. قال لهم ابحثوا إذاً عن زجاجة ويسكي بالقصر.

عند هذا قاطع الصحافي السفير وسأله هو يبتسم: بالقصر عند أمير المؤمنين؟ بادله السفير الابتسامة: نعم عند أمير المؤمنين وجدوا زجاجة ويسكي بسرعة فأحضروا للطبيب ليتراً من هذا المشروب كما حدثنا الطبيب فيما بعد. ويتابع السفير: طلب الطبيب منهم أدوات طبية فأتوا له بحقيبة محمولة فيها بعض ما طلب، أحضروها من المستشفى. قام الطبيب بغسل الأدوات بنصف كمية الويسكي أما النصف الثاني من الزجاجة فأفرغها في فم الإمام بدلاً عن المخدر ثم استخرج من جسده عدة طلقات وبعدها لفه بقطعة من القماش النظيف. ويختم السفير هذا الجزء بالقول: تمت العملية في ظروف منزلية. أخبرونا أن الإمام قال لهم أن كل شيء على مايرام. ويمكنهم أن يخلدوا للراحة. فأطلقوا سراح الطبيب فان جان وعبروا له عن امتنانهم، وأهدوه فرساً.

متاحف ثورة سبتمبر

بعد وفاة الإمام أحمد تولى منصبه ولي عهده ونجله الإمام البدر الذي لم يدم طويلاً في موقعه إذ اندلعت ضده ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962م وظلت متاحف الثورة التي هي في الأصل قصور الإمام أحمد تعرض أنواعاً من المتاع الشخصي بينها الخمور في الواجهات الزجاجية حتى أتت جماعة الحوثي التي يتهمها خصومها باعتناق النهج الإمامي. وفي 2 شباط/ فبراير 2016 دمرت الجماعة قصر العرضي في شارع الشهداء بتعز لينكشف ارتباط البلد بشكل وثيق برواسب الماضي وعدم قدرتها على المضي قدماً.

قراءة : أحمد عبد الرحمن الهاجري - كاتب يمني

المزيد في هذا القسم:

No More Articles