صراع دولي على فنزويلا : الرئيس مادورو صامد !

المرصاد نت - متابعات

يشعر الرئيس اليساري بأنه امتصّ صدمة المحاولة الانقلابية. نيكولاس مادورو أكثر اطمئناناً اليوم بعد أيام من تصعيد الهجوم الأميركي، في ظلّ المواقف الداعمة من فئة واسعة منVainzaoalla2019.1.26 الشعب خرجت في تظاهرات التأييد، وموقف الجيش الواضح والحاسم إلى جانبه وكذلك المواقف الدولية المتضامنة. هذه الأسباب جعلت من الرجل يظهر في مؤتمره الصحافي الطويل أمس بمظهر الواثق لكن في الوقت نفسه المستعد لمجابهة الأخطار الخارجية التي قد لا تقف عند حدود ما يجري و«المقاومة» و«المضي على نهج سيمون بوليفار» في الدفاع عن استقلال البلاد «ضد الإمبريالية الأميركية» كما قال.

أما غريمه الانقلابي خوان غوايدو المتواري عن الأنظار والرافض لدعوة الحوار التي وجّهها مادورو فلا يزال واثقاً هو الآخر بالتجييش الأميركي المتواصل لمصلحته ضمن مشروع تبيّن أنه أُعدّ منذ أسابيع قبل أن يطلق نائب الرئيس الأميركي مايك بنس الثلاثاء الماضي صافرة البداية في اتصال هاتفي مع غوايدو وفق ما كشفت «وول ستريت جورنال». هذه الأجواء تقود إلى الاعتقاد بأن أزمة البلد اللاتيني الغني بالنفط والمهدَّد بحرب أهلية جراء الانقسام العمودي الحاد والتدخل الخارجي مفتوحة على التصعيد، بعدما ولّدت انقساماً دولياً سيعبّر عن نفسه في جلسة مجلس الأمن الدولي اليوم والتي يتوقع أن تشهد منازلة روسية أميركية جديدة

تصعيد أميركي متواصل: فيتو روسي ينتظر واشنطن

في اليوم الثالث للأزمة التي فجّرها إعلان رئيس البرلمان الفنزويلي خوان غوايدو، نفسه رئيساً بالوكالة الأربعاء الماضي، واعتراف واشنطن به، خرج الرئيس نيكولاس مادورو أمس في مؤتمر صحافي أسهب فيه في مناقشة التطورات. مادورو الذي تتوجه إليه الأنظار في الداخل والخارج وعلى رغم تمسكه بالاتهامات الحساسة حول خيانة غريمه غوايدو وتوصيفه ما قام به بأنه انقلاب مدفوع من الولايات المتحدة حرص على شرح الأزمة من الناحية القانونية مستعرضاً مواد الدستور للمحاججة في عدم شرعية إعلان غوايدو إلى جانب تمسكه بالحوار الوطني كسبيل لحل الأزمات تحت سقف احترام الدستور للحفاظ على الديموقراطية في البلاد.

وشدد مادورو على استعداده للقاء غوايدو في أي وقت على رغم غدر الأخير المتمثل في أنه تراجع عن تعهده عشية الانقلاب عبر قنوات الحوار غير المباشر بأنه لن يعلن نفسه رئيساً. لكن على الفور وفي خطوة من شأنها أن تترك باب الأزمة مفتوحاً على مصراعيه ردّ زعيم المعارضة بالسلب على مبادرة الرئيس إذ اعتبر أنه «عندما لا يحصلون على النتائج التي يريدونها من خلال القمع فإنهم يعرضون بدلاً من ذلك إجراء حوار شكلي».

وفي شق آخر وجه الرئيس مادورو المجدَّد له عبر الانتخابات لولاية ثانية تستمر حتى 2025 رسائل إلى الخارج وتحديداً إلى الولايات المتحدة وإسبانيا والدول الأوروبية، مجدداً تمسكه باستقلال البلاد ورفض التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية. وهزئ من إعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو تقديم مساعدة إنسانية للشعب الفنزويلي بقيمة 20 مليون دولار متسائلاً: «هل هذا المبلغ الزهيد هو ثمن المعارضة؟»، واصفاً غوايدو بـ«المتسول».

وقال مادورو: «لا ننتظر أي شيء جيد من الولايات المتحدة، فهم يسلبون الثروة من كل العالم، ولا يساعدون الفقراء لديهم مئات الآلاف من الدولارات التي صرفت لقصف فييتنام وليبيا والعراق... هذه عقيدتهم العسكرية، إنها موجهة لصناعة الموت، إنهم لا يقدمون العون ونحن لسنا بحاجة إلى أحد وسنقوم بتحسين أوضاعنا بأنفسنا». وتابع: «الولايات المتحدة تعتدي على كل الدول باسم السلام... يمكنهم نشر الخوف في أي مكان ولكن ليس هنا».

وأضاف إن «بلادنا عظيمة ومقتدرة ولن نسمح للعدو الإمبريالي بأن يدنّسها»، معلناً استعداد القوات الفنزويلية لصدّ أي اعتداء ونيتها إجراء مناورات منتصف الشهر المقبل لرفع الجاهزية. وأوضح أن كراكاس ليست معادية للولايات المتحدة، إنما لـ«الإمبريالية» الأميركية، وأن قرار قطع العلاقات مع واشنطن لا يشمل العلاقات مع الشعب وفي الاقتصاد والطاقة مؤكداً استمرار بيع النفط للولايات المتحدة. وقال في هذا الشأن: «سنواصل بيع كل ما نبيعه. إذا أرادوا شراء البطاطا منا، فنحن سنبيعهم وشراء البصل، سنبيعهم… وإذا كانوا لا يريدون شراء النفط، فنحن سنبيع في مكان آخر». مادورو الذي ختم خطابه بشكر الحلفاء والأصدقاء والمتضامنين وعلى رغم رسائل الجاهزية عالية النبرة أبدى استعداده للحوار داعياً الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونائبه مايك بنس إلى التعقّل وحل الأزمة بين البلدين بالطرق السلمية.

على الجبهة المقابلة أعلن الرئيس الانقلابي أنه يستعد لإعلان «إجراءات جديدة». وأضاف غوايدو في حديث إعلامي من مخبئه السري في العاصمة حيث يتوارى عن الأنظار أنه مستمر «في العمل لإنهاء اغتصاب السلطة وإقامة حكومة انتقالية وانتخابات حرة» داعياً المواطنين إلى الاستمرار في التظاهر ضد النظام. وذهب أكثر من ذلك عبر حديثه عن إمكانية إصدار «عفو» عن الرئيس مادورو! وحول الدور الأميركي في ما يجري في فنزويلا نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية عن مسؤول أميركي وصفته بـ«رفيع المستوى» أن نائب الرئيس ترامب، مايك بنس اتصل برئيس البرلمان الفنزويلي قبل يوم من إعلان نفسه رئيساً وأعرب له عن «وقوف الولايات المتحدة إلى جانبه». وكشفت الصحيفة عن خطة جرى العمل عليها خلال الأسابيع الأخيرة بين عدد من المسؤولين الأميركيين وغوايدو وفريقه «وصلت ذروتها الأخيرة مع المكالمة الهاتفية».

وفي وقت بدأت فيه الولايات المتحدة سحب موظفيها من فنزويلا وتشجيع المواطنين الأميركيين على المغادرة من المنتظر أن يعقد مجلس الأمن الدولي اليوم جلسة مخصصة لمناقشة الأزمة دعت إليها واشنطن وسيشارك فيها وزير خارجية كاراكاس. وفي مؤشر على مواصلة التصعيد الأميركي عين بومبيو مبعوثاً إلى فنزويلا هو إليوت أبرامز وذلك بهدف «إعادة الديموقراطية» إلى هذا البلد على حدّ تعبيره. ورأى بومبيو أن «على الشعب الفنزويلي اتخاذ الخطوات اللازمة للتخلص من النظام الديكتاتوري»، معتبراً في الوقت نفسه أن «من مسؤوليتنا العمل على إعادة الديموقراطية إلى فنزويلا». وقالت الخارجية الأميركية إن بومبيو سيدلي في الجلسة بإفادة يحثّ فيها الدول الأعضاء على الاعتراف بشرعية غوايدو.

التحرك الأميركي استبقته روسيا بإعلان أنها ستعارض المشروع إذ نقلت وكالة «رويترز» عن مندوب موسكو الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا قوله إن «هذا لن يمر، لن يتغير أي شيء بالنسبة إلينا». وتُعقد جلسة مجلس الأمن وسط استقطاب دولي حاد حول الأزمة الفنزويلية تظهر فيه الولايات المتحدة في موقع الداعم للانقلاب وإلى جانبها دول في مجموعة «ليما» وأخرى أوروبية مقابل مواقف دولية رافضة لنزع الشرعية عن الرئيس المنتخب والتدخل الخارجي، في مقدمها الصين وروسيا.

وفي هذا الإطار جددت موسكو على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف استنكارها السياسة الأميركية «التدميرية» في فنزويلا. ورفض لافروف الانقلاب والتدخل الخارجي مشيراً إلى أن بلاده ستعبّر عن موقفها في جلسة مجلس الأمن. من جهتها أعادت الخارجية الصينية التأكيد على معارضة «التدخل الأجنبي في فنزويلا وخاصة تهديدات التدخل العسكري». وحثت بكين جميع الأطراف على «احترام اختيار الشعب الفنزويلي»، مبدية دعمها لمساعي الحل السياسي «داخل إطار الدستور»، ولجهود كاراكاس في التمسك بالسيادة والاستقلال والاستقرار.

حرب الدستور والصورة
في ظلّ احتدام الصراع الداخلي في فنزويلا، يحاول كل طرف إظهار نفسه أمام الجمهور بأنه المتمسك بدستور البلاد والمنتسب إلى رموزها الوطنية. وقد حرص الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، أمس، في مؤتمره الصحافي، حيث ظهر ومن ورائه صورة للزعيم التاريخي للبلاد سيمون بوليفار، على حمل نسخة من الدستور الفنزويلي الذي استشهد بنصوصه، مؤكداً التمسك به وبالديموقراطية. وكان زعيم المعارضة، رئيس «الجمعية الوطنية» (البرلمان) خوان غوايدو، قد ظهر في إعلانه نفسه رئيساً مؤقتاً بالوكالة، وهو يحمل نسخة صغيرة من الدستور طبع عليها صورة لوجه قائد حروب الاستقلال عن الاستعمار الإسباني، سيمون بوليفار. يذكر أن حركة الرئيس الراحل، هوغو تشافيز، حملت اسم «الثورة البوليفارية» نسبة إلى سيمون بوليفار ومبادئه. كما أن تشافيز عمد بعد فوزه الى تحويل اسم البلاد إلى «جمهورية فنزويلا البوليفارية»، وهو الاسم الرسمي للبلاد اليوم. لكن المفارقة في ما يجري اليوم أن تبني غوايدو المدعوم من الولايات المتحدة لبوليفار يوحي بأنه محاولة لتقديم رمز وطني بديل من تشافيز، الذي أقدم أنصار الرئيس الانقلابي على إحراق عدد من تماثيله في البلاد في الأيام الماضية، والفصل بين الحركة التشافيزية ومادورو وسيمون بوليفار الذي يحظى بقدسية لدى الشعب الفنزويلي.

موسكو مستعدّة للتوسط
أفادت وكالة الإعلام الروسية بأن موسكو التي تتمسك بشرعية الرئيس نيكولاس مادورو عرضت أمس التوسط بين الحكومة والمعارضة في فنزويلا «إذا اقتضت الضرورة»، وبأنها مستعدة للتعاون مع كل القوى السياسية «التي تتحلى بالمسؤولية»، بحسب ما نقلت الوكالة عن مدير قسم أميركا اللاتينية في الخارجية الروسية ألكسندر شيتينين. في غضون ذلك، أفادت وكالة «فرانس برس» بأن كندا ستستضيف اجتماعاً لمجموعة «ليما» التي تضم دولاً من الأميركيتين أيدت بمعظمها شرعية الرئيس الانقلابي خوان غوايدو، لبحث الأزمة في فنزويلا، من دون تحديد موعد للاجتماع. في الأثناء، طالب وزير الخارجية الإسباني، جوزيب بوريل الاتحاد الأوروبي بالاعتراف برئيس البرلمان الفنزويلي «رئيساً مؤقتاً»، وذلك في حال عدم إجراء انتخابات رئاسية «في أقرب وقت». وقال بوريل أمس إن الحكومة الإسبانية قدمت مقترحاً لمجلس الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي حول الوضع في فنزويلا، حاثاً الاتحاد على الاهتمام بالوضع في فنزويلا نظراً إلى ما اعتبره «الروابط الإنسانية والثقافية التي تربط الجانبين».

الطاعون الأبيض: معركة الغرب و«الآخرين» تحتدم في كراكاس
 

معركة فنزويلا دولية بامتياز. لا يستطيع المثاليون المغفّلون أصحاب شعار «الأولوية للديموقراطية» أن يتعاموا عن التدخل الأميركي المباشر في صيرورة الأزمة الحالية وفي هندستها أن ينكروا هذه الحقيقة الجلية بعد مسارعة الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى التأييد العلني للمحاولة الانقلابية التي يشهدها هذا البلد. أنكروا ذلك في ليبيا التي تعرضت لحملة تدمير شاملة من قِبَل حلف الـ«ناتو» وفي سوريا التي استُهدفت بحرب إقليمية ــــ دولية باتت إسرائيل شريكاً رسمياً فيها منذ سنوات تحت مسمّى «عمليات ما دون الحرب». حتى أيام الإعداد لغزو العراق عام 2003، طرحوا شعارهم الأبله: «لا للحرب، لا للديكتاتورية» على أساس أن القوات الغازية لم تكن تستهدف محو العراق العربي عن الخريطة ــــ وهو ما حصل بالفعل ــــ، وتحويله إلى فدرالية طوائف وإثنيات لا تزال غارقة في نزاعاتها إلى اليوم.

أزمة فنزويلا دولية بامتياز لأنها كاشفة للاستقطاب الدولي المتعاظم بين قوى الهيمنة الغربية الهرمة المؤيدة للمحاولة الانقلابية والقوى غير الغربية الصاعدة المدافعة عن الرئيس الشرعي نيكولاس مادورو وعن عالم تسود علاقات ندّية بين مكوناته بعد أكثر من خمسة قرون من سياسات العدوان والاحتلال والإبادة والاستعباد والنهب والاستغلال التي اعتمدها الغرب حيال «الآخرين»: شعوب وبلدان الجنوب. وهي دولية أيضاً لأن لمآلاتها تداعيات مهمة على عملية الاستقطاب المذكورة والتحولات في موازين القوى العالمية الناجمة عنها.

انفلات العصبية البيضاء من عقالها
كيف يُفسر الحشد الغربي دعماً لرئيس البرلمان الفنزويلي الانقلابي خوان غوايدو على رغم الخلافات المتزايدة بين طرفَيه الأميركي والأوروبي؟ اعتقد البعض أن مواقف ترامب تجاه حلفائه الأوروبيين، وتهديده إياهم بحرمانهم من الحماية الأميركية عبر الانسحاب من حلف الـ«ناتو» سيدفعهم إلى تغيير مقارباتهم للشؤون الدولية، والعزوف ــــ ولو تدريجياً ــــ عن الانسياق خلف الولايات المتحدة. لكن الأزمة الفنزويلية تظهر خطأ هذا الاعتقاد، لأن أبرز القادة الأوروبيين، بمن فيهم من يوجّه نقداً حاداً لواشنطن، ضمّوا أصواتهم إلى صوت «الأخ الكبير» الأميركي، في مسعى لنزع الشرعية عن الرئيس مادورو، وتأمين الغطاء السياسي للمحاولة الانقلابية.

يختلف هؤلاء حول البيئة والتجارة والحماية الجمركية وحول السبيل الأمثل لاحتواء إيران مع أو دون الاتفاق النووي، لكنهم يتحوّلون إلى قطيع من الذئاب الكاسرة إذا سنحت الفرصة لإسقاط نظام وطني في بلد من بلدان الجنوب، وعودة سيطرتهم عليه. هذا ما فعلوه في ليبيا على رغم التنازلات المفرطة التي قدّمها معمر القذافي لهم والتي ساوت ما يشبه الاستسلام وما حاولوا فعله في سوريا بعد مساعٍ فرنسية مخادعة للتقارب قبل انفجار الصراع سرعان ما انقلبت إلى حرب مفتوحة عند وقوع هذا الانفجار. لا يمكن التغاضي عن الخبر الذي نُشر على موقع أسبوعية «باري ماتش» الذي يفيد بأن سقوط مادورو «سيكون خبراً مفرحاً لشركة توتال».

تشتكي الأطراف الأوروبية من سوء معاملة ترامب لها، لكنها ترصّ الصفوف خلفه عندما يتعلق الأمر بالانقضاض على دولة وطنية في جنوب العالم، تمتلك ثروة نفطية كفنزويلا، ولو تعلق الأمر بالحصول على جزء من فتات النهب الإمبريالي لها. فالدول الغربية الهرمة جميعها تشهد بالعين المجردة سرعة ضمور هيمنتها ونفوذها، لحساب اللاعبين الجدد غير الغربيين («القوى التحريفية» حسب تعريفهم)، الذين أصبحوا ينافسونها على الصعيد العالمي على الأسواق والموارد والمواقع الاستراتيجية.

لقد دخلت روسيا إلى الشرق الأوسط من الباب العريض بفعل الأزمة السورية، وتتبعها الصين، بينما اتخذ دونالد ترامب قراراً بسحب قواته من سوريا يراه قسم وازن من المحللين مؤشراً إلى بداية انسحاب أميركي من المنطقة، أو على الأقل تراجع نفوذ الولايات المتحدة فيها. الصين لاعب اقتصادي أساسي في أفريقيا منذ فترة غير قصيرة، تليها روسيا التي شرعت في تطوير تعاونها العسكري والسياسي مع عدد من دولها. فنزويلا كانت مبادِرة إلى فتح أبواب التعاون الاقتصادي والعسكري ــــ الاستراتيجي مع القوتين الآسيويتين (وروسيا أخذت بخيار الانتماء إلى آسيا بعد فترة طويلة من «الحلم» بالدخول إلى النادي الغربي). تحولات العالم تصيب القطاع الأوسع من نخب الغرب، وشطراً لا يُستهان به من مجتمعاته، بهلع شديد. من هنا الانقياد الأعمى خلف ترامب ضد فنزويلا والصين وروسيا، ومن هنا أيضاً نمو العصبية البيضاء، الشكل المعاصر للفاشية الغربية.

لقد وصلت عدوى العصبية البيضاء من الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا إلى دول في الجنوب، تضمّ بين سكانها أقليات بيضاء من أصول أوروبية كالبرازيل وفنزويلا والأرجنتين وتشيلي. في هذه البلدان يتطابق الانقسام الاجتماعي ــــ الطبقي والسياسي ــــ إلى حد كبير ــــ مع الانقسام العرقي. أحفاد المستوطنين الأوروبيين الذين استولوا على البلاد واحتكروا ثرواتها وحكموها منذ تأسيسها ويسمون العائلات (Familias)، يقفون اليوم في مواجهة أغلبيات مفقرة ومتنوعة، تضم السكان الأصليين والمختلطين والمنحدرين من أصول أفريقية.

هذه الجماهير هي القاعدة الاجتماعية والانتخابية التي صوتت لمصلحة «حزب العمال» في البرازيل وهوغو تشافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا وغيرهم من قوى اليسار التي سعت إلى وضع سياسات إصلاح اقتصادي ــــ اجتماعي شديد الاعتدال موضع التنفيذ. لم تكن هذه القوى في صدد إدخال تعديلات جذرية على نظام الملكية الخاص في هذه البلدان، ولا على الطبيعة الديموقراطية لأنظمتها السياسية، كما فعلت الأحزاب الشيوعية بعد تسلّمها السلطة من خلال مسار ثوري في روسيا والصين وفييتنام وكوبا. جلّ ما طمحت إليه هو الحد من الفوارق الطبقية الهائلة عن طريق إصلاحات اقتصادية تتيح قدراً من إعادة توزيع الثروة يخرج عامة الشعب من الفقر المدقع ويؤمّن له الحد الأدنى من الحياة الكريمة.

سبق للولايات المتحدة أن أطاحت الرئيس التشيلي سيلفادور أليندي لأنه أراد ــــ عبر استعادة السيطرة على الموارد الوطنية من الشركات الأميركية ــــ «أن يكفل حق أبناء تشيلي بتناول ثلاث وجبات طعام يومياً مع كوب من الحليب للأطفال في الصباح». قتلوا أليندي صاحب نظرية التحول السلمي نحو الاشتراكية، بسبب برنامجه الإصلاحي المتواضع الذي يمكن حتى للعديد من الأحزاب اليمينية في دول الغرب أن تتبنّاه. لكن ما يحق لعامة الغربيين لا يحق لغيرهم. لا نزال اليوم أمام المنطق نفسه مع اختلاف جوهري وهو تخلّي قيادة الغرب ــــ أي الولايات المتحدة ــــ عن مزاعم من نوع نشر الديموقراطية أو الدفاع عن حقوق الإنسان.

الإمبراطورية المنحدرة تظهر مجدداً شراستها المنقطعة النظير في ما تعتبره حديقتها الخلفية أي أميركا الوسطى واللاتينية، فتشرف على انقلاب مكشوف في البرازيل أزاح ديلما روسيف من السلطة وتحاول إطاحة مادورو وترعى صعود القوى الفاشية داخل هذه البلدان. ليس سراً أن رفيق درب ترامب ستيفن بانون كان المدير الفعلي لحملة بولسونارو الانتخابية في البرازيل وأنه يقوم بدور مباشر في مساعدة المعارضة الفنزويلية.

المعركة الدائرة في فنزويلا وقبلها في البرازيل تلخص وتكثف الصراع المحتدم على صعيد عالمي: أقليات بيضاء غربية مترفة ومتغطرسة وغارقة في حنينها إلى عصر ملكت فيه البلاد ومَن فيها تجهد لمنع الأغلبيات الملونة وغير الغربية من نيل حقوقها الأساسية كبشر وتفعل ذلك أولاً بفضل دعم الولايات المتحدة. فليكن شعارنا اليوم كما في الأمس: «الموت لأمريكا»!

المزيد في هذا القسم:

المزيد من: الأخبار العربية والعالمية