بعد عشرين عاماً في السلطة ..الجزائر تطوي صفحة حكم الرئيس بوتفليقة!

المرصاد نت - متابعات

طوت الجزائر إحدى أطول صفحات تاريخها بإعلان استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعد عشرين عاماً في السلطة وأربعين يوماً من التظاهرات الحاشدة ضدّ حكمه التي رافق Botaflaikah2019.4.3جمعاتِها الست أخذٌ وردٌّ بين الرئاسة التي اضطرت إلى التنازل تدريجاً من جهة وبين الجيش الذي ظلّ ممسكاً بزمام المبادرة من جهة أخرى لينتهي الفصل الأول من المخاض المستمر باستقالة الرئيس قبل ستة وعشرين يوماً من نهاية ولايته الرابعة وذلك عقب اجتماع لقادة المؤسسة العسكرية صنفوا خلاله محيط الرئيس بـ«العصابة».

«إعلان حرب» صريح فتح الباب على احتمالات «دراماتيكية» في شأن خطوات المؤسسة العسكرية الأقوى في البلاد في خلال الساعات المقبلة في وقت تُطرح فيه تساؤلات متعددة عن النهاية التي ستؤول إليها الأزمة المتمايزة إلى الآن عن مخاضات بقية الدول العربية.

بكلمات محدودة أعلنت رئاسة الجمهورية مساء أمس أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أخطر رسمياً رئيس المجلس الدستوري بقراره إنهاء عهدته بصفته رئيساً للجمهورية. يعني ذلك عملياً أن بوتفليقة قدّم استقالته رسمياً من المنصب وهو ما يترتب عليه تولي رئيس مجلس الأمة رئاسة البلاد بالنيابة.

وعلى رغم أن إعلان الاستقالة جاء بعد يوم فقط من بيان للرئيس تعهّد فيه بالاستقالة إلا أن استعجاله أنبأ بأن ضغطاً شديداً من الجيش لم يسمح لبوتفليقة باتخاذ قرارات وصفها أول من أمس بالمهمة وأدى إلى تسريع قرار الخروج من المشهد. فقبل ساعة فقط من استقالة بوتفليقة أصدر الجيش بياناً نارياً عُدّ بمثابة إعلان حرب على محيط الرئيس الذي وصفه لأول مرة بـ«العصابة» و«ناهبي مال الشعب».

وبدا رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح الذي جمع حوله كل قادة النواحي العسكرية وكبار الضباط في الجيش منزعجاً للغاية مما جاء في بيان الرئاسة يوم الاثنين الماضي الذي تحدث عن «قرارات مهمة ستسبق إعلان الاستقالة» فقال: «في الوقت الذي كان فيه الشعب الجزائري ينتظر بفارغ الصبر الاستجابة لمطالبه المشروعة صدر يوم الأول من نيسان/ أبريل بيانٌ منسوب إلى رئيس الجمهورية لكنه في الحقيقة صدر عن جهات غير دستورية وغير مخوّلة يتحدث عن اتخاذ قرارات مهمة تخص المرحلة الانتقالية وفي هذا الصدد بالذات نؤكد أن أي قرار يتخذ خارج الإطار الدستوري مرفوض جملة وتفصيلاً».

تشير العديد من التحليلات إلى أن المتحكمين في مؤسسة الرئاسة كانوا يُعدّون لقرارات قبل استقالة بوتفليقة تخص تغيير رئيس أركان الجيش والقادة العسكريين الموالين له وترتيب المرحلة الانتقالية عبر تغيير رئيس مجلس الأمة الذي سيسيّر البلاد بالنيابة وهو ما يضمن لهم تصعيد مسؤولين لن يتعاملوا معهم بمنطق الانتقام بعد رحيل الرئيس. وأكثر ما كان يخشاه رئيس أركان الجيش الحالي عودة مدير المخابرات السابق الفريق توفيق الشهير بقدرته الكبيرة على المناورة.

وقد صدر أمس عن الرئيس السابق إليامين زروال ما يؤكد صحة المعلومات التي جرى تداولها عن خطة مضادة كان يُعدّها السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس ومستشاره الخاص مع مدير المخابرات السابق للوقوف في وجه دعوة الجيش إلى تفعيل المادة الدستورية الخاصة بعزل الرئيس. وذكر زروال أن الجنرال توفيق طلب لقاءه وعرض عليه يوم 30 آذار/ مارس الماضي رئاسة هيئة لتسيير الهيئة الانتقالية. وتضمن هذه الخطة التي لم يُكتب لها النجاح، مزيداً من الوقت لمحيط الرئيس من أجل ترتيب أوراقه والمفاوضة على خروج هادئ من السلطة.

ولإنهاء هذه «المناورات المشبوهة» كما يصفها أكد رئيس أركان الجيش أنْ «لا مجال للمزيد من تضييع الوقت وأنه يجب التطبيق الفوري للحل الدستوري المقترح المتمثل بتفعيل المواد 7 و8 و102 ومباشرة المسار الذي يضمن تسيير شؤون الدولة في إطار الشرعية الدستورية» وهو ما يبدو أن الرئيس ومحيطه استجابا له على الفور.

ويشير نص المادة 102 التي ستطبق اليوم إلى أنه «في حالة استقالة رئيس الجمهورية أو وفاته يجتمع المجلس الدستوري وجوباً ويُثبِت الشغور النهائي لرئاسة الجمهورية‮.‬ وتُبلغ فوراً شهادة التصريح بالشغور النهائي إلى البرلمان الذي يجتمع وجوباً»‮.‬ وترتب هذه المادة انتقال الحكم كما يأتي: «يتولى رئيس مجلس الأمة مهمات رئيس الدولة لمدة أقصاها تسعون يوماً تنظم خلالها‮ ‬انتخابات رئاسية‮.‬ ولا يَحِق لرئيس الدولة المعين بهذه الطريقة أن يترشح لرئاسة الجمهورية»‮.Wahrannn2019.4.3

قرار الرئيس تقديم استقالته أزال عبئاً كبيراً عن رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز المعروف بولائه الشديد لبوتفليقة ومحيطه وهو ما دفعه إلى رفض التجاوب مع دعوة الجيش إلى تطبيق المادة 102 منذ 26 آذار/ مارس الماضي. وقد أشار رئيس أركان الجيش بوضوح هنا إلى أن دعوته لإعلان شغور منصب الرئيس قد قوبِلَت بـ«التماطل والتعنت بل والتحايل من قبل أشخاص يعملون على إطالة عمر الأزمة وتعقيدها».

وذهب بعيداً في هجومه على المحيطين بالرئيس واصفاً إياهم بـ«العصابة» واتهمهم بتكوين ثروات طائلة بطرق غير شرعية وفي وقت قصير من دون رقيب ولا حسيب وبمحاولة تهريب أموالهم إلى الخارج. ويُعدّ هذا تحولاً دراماتيكياً في موقف الجيش من المحيطين بالرئيس الذين يسيطرون على القرار منذ فترة طويلة في مؤسسة الرئيس نتيجة غياب الرئيس الدائم ومرضه الشديد. وكان الفريق أحمد قايد صالح من أبرز داعمي الرئيس في ولايته الرابعة. وكان يخصه دائماً بالمديح في خطاباته ويرفض بشدة كل الدعوات التي وجهتها إليه شخصيات سياسية بالتدخل لإطلاق مسار انتقالي بسبب مرض الرئيس، في عامي 2015 و2016م.

ويُنتظر في ضوء هذه الأوصاف «الجنائية» التي أطلقها الجيش أن تتحرك العدالة في التحفظ على شقيقَي الرئيس بوتفليقة السعيد وناصر وهما الأكثر نفوذاً حالياً، بالإضافة إلى عدد من رجال الأعمال الموالين لهم. وأُعلن في هذا الصدد اتخاذ تدابير احترازية تتمثل بمنع بعض الأشخاص من السفر إلى حين التحقيق معهم كما قامت الهيئات المخولة لوزارة النقل بتفعيل إجراءات منع الإقلاع والهبوط لطائرات خاصة تابعة لرجال أعمال في مختلف مطارات البلاد طبقاً للإجراءات القانونية السارية المفعول. وكان أول الموقوفين رجل الأعمال النافذ علي حداد الذي قُبض عليه وهو يهمّ بالفرار عبر أحد المعابر الجزائرية التونسية.

ورغم أن الكثير من الجزائريين عبّروا عن مساندتهم لقرار الجيش إلا أن ثمة من يتخوف من تحكم المؤسسة العسكرية في تسيير المرحلة الانتقالية باعتبارها الطرف الأقوى اليوم في المعادلة. ولم تظهر إلى اليوم، خريطة الطريق المفصلة التي يريدها الجيش لتسيير هذه المرحلة، عدا الدعوة إلى تطبيق المواد 7 و8 و102 من الدستور. وتتحدث المادتان 7 و8 عن أن الشعب مصدر السيادة وصاحب السلطة التأسيسية، لكنها مواد عامة فضفاضة وليست إجرائية.

ويخشى البعض من الذهاب حصرياً إلى انتقال الحكم عبر المادة 102 التي تنص على تنظيم انتخابات في ظرف ثلاثة أشهر بالآليات الانتخابية القديمة نفسها وتمنع تغيير الحكومة الحالية المرفوضة شعبياً ما يهدد باستمرار سيطرة المؤسسة العسكرية على اختيار الرئيس في البلاد. والمعروف أن الجيش في الجزائر كان صاحب القرار في تعيين الرئيس منذ الاستقلال واستمر ذلك حتى عام 1999م التي جيء فيها بالرئيس بوتفليقة الذي استمر في الحكم إلى اليوم واستطاع جزئياً تحييد المؤسسة العسكرية عن المشهد السياسي عبر إنهاء عهد أكبر الجنرالات الذين حكموا البلاد في الظلّ خلال فترة التسعينيات.

عن الجيش والرئيس في الجزائر

نهايات تراجيدية .. يذكر عبد العزيز بوتفليقة يوماً في شتاء 1978م اشتد فيه المرض على الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين. كان الرجل ممدّداً في فراشه وهو يحتضر وقد جلس حول سريره بعض أقرب أعوانه. دار الحديث عن ذكريات الماضي وفوجئ مساعدو بومدين به يبدي أسفه على ما فعله بحق رفيق دربه الرئيس الأسبق أحمد بن بلة ويقول إنه يود لو يصلح ما لحق بـ«سي أحمد» من أذى.

الرواية التي سجّلها الكاتب التونسي الصافي سعيد في كتابه «الحمّى» ونسبها إلى عبد العزيز بوتفليقة تذكر أن الأخير لما سمع رئيسه المريض يبدي الأسف حاول أن يخفف عنه قائلا: «قد يكون سجن بن بلة خطأ - وقد يكون خطأ كبيراً - ولكن يا سيادة الرئيس الأخطاء الكبيرة من سمات الرجال الكبار. وأخطاء الرجال على قدر أعمالهم».

كانت نهايات رؤساء الجزائر حزينة في مجملها. منهم من جيء به إلى الحكم بعد ثلاثين عاما قضاها في المنفى ولم يلبث إلا بضعة شهور ثم سقط غيلة وغدراً. ومنهم من أُجبِر على التنحي فطويت صفحته ورُمي به في بئر النسيان. ومنهم من قضى نحبه مسموماً؟ ومنهم من انتهى به المطاف معزولا محبوسا بين جدران سجن مطبق. لم يخرج أيّ من رؤساء الجزائر من الحكم بطريقة حسنة - عدا اليمين زروال ربما. وكانت نهاياتهم كلها تراجيدية.Algzair2019.4.3

بن بلة وبومدين

كان بن بلة مثلا رجلا مولعا بالشعارات الثورية وهتافات الجماهير. وبدا أن الجزائر في عهده تنزلق نحو حرب أهلية توشك أن تدمر النجاح المجيد في نيل الاستقلال عن فرنسا. لم يكن في إمكان بن بلة أن يحدّ من خطر المتمردين على سلطة الدولة. إذ لم تتورع كل مجموعة ترى في نفسها القدرة على حمل السلاح عن الصعود إلى الجبال وإعلان التمرد. ولم يقتنع بعض الثوار أن فرنسا ذهبت وأن مشاكل الجزائر ما عاد يمكنها أن تحل بالسلاح وحده.

كانت تلك الأسباب التي دفعت وزير الدفاع هواري بومدين الى التحرك بسرعة لينهي «المهزلة» التي توشك الجزائر أن تنحدر إليها. كان هدف الرجل أن يضع الدولة والثورة في مسارهما الصحيح، ولم يكن يعتقد أن ما قام به انقلاب على الثورة بل تصحيح لمسارها بعدما بذل مليون شهيد جزائري أرواحهم في سبيلها. اتجه تفكير بومدين بداية إلى إعلان حالة الطوارئ وإرغام بن بلة على التنازل عن بعض مسؤولياته للجيش. لكن بوتفليقة أقنع رفاقه أن «دعسة ناقصة» قد تجعل الأمور تنقلب عليهم. هكذا انحصر التفكير في وجوب تنحية بن بلة بصورة نهائية. تولى بومدين قيادة «الحركة التصحيحية» بحكم موقعه القيادي في مؤسسة الجيش الوطني الجزائري. صار الصراع بين الرئيس وقائد الجيش، في حزيران 1965م سافراً. وعلم بومدين أنه في سباق مع الوقت. فإن لم يبادر هو إلى الإطاحة بخصمه سيطيح بن بلة به لا محالة. وكان الأخير قد جهّز فعلاً لإقالة كل أعوان بومدين وعلى رأسهم بوتفليقة.

عُقد أول اجتماع لمجلس قيادة الثورة بعد الإطاحة ببن بلة في منطقة حيدرة بضواحي الجزائر. أقسم أعضاء المجلس أن «يحفظوا دماء الشهداء». واقترح بوتفليقة في ذلك الاجتماع حلّ حزب جبهة التحرير الوطني لأنّ دوره التاريخي قد انتهى بعد استقلال البلاد وتأسيس حزب جديد يقود عملية بناء الدولة. لكن بومدين اعترض قائلا إنّ جبهة التحرير رمز لا يمكن حله ولكن يجب تطهيره والحد من نفوذه. طلب العقيد درايا ان يحاكم بن بلة وأعوانه فاعترض العقيد بلهويشات قائلا: «إذا كنت تسعى إلى إعدامه فلن أسمح لك».

هكذا أصبح مصير الرئيس الأسبق أول مشكل حقيقي اعترض سبيل القادة الجدد. وقد تلقى بومدين رسائل كثيرة تحثه على العفو عن بن بلة فلم يرد على الشفاعات كلها. وحين جاء إليه فتحي الديب مبعوث الرئيس جمال عبد الناصر مطالبا إياه بتسليم بن بلة إلى القاهرة ردّ بومدين على الموفد المصري: «قل لعبد الناصر إن صديقه سيظل بعيدا عن كل إهانة أو سوء. لكنه سيبقى في الجزائر».

حاول الديب أن يعترض فرد بومدين بغضب: «لماذا لم يقبل عبد الناصر الوساطات التي طالبته بالعفو عن محمد نجيب؟!». كان ذلك جواباً مفحما لكنه لم يقنع عبد الناصر. فأعد الرئيس المصري ثلاث مجموعات كوماندوس وأرسلها إلى الجزائر وتونس وفرنسا لكي تعمل على تهريب بن بلة من سجنه. وقد ذهب الظن به انه يستطيع أن يكرر في الجزائر ما صنعه قبل أربعة أعوام حين تمكن من إنقاذ عبد الحميد السراج وإخراجه من سجنه في المزة في دمشق. وقد أوشكت مجموعة الجزائر بالفعل أن تكتشف مكان الإقامة الجبرية للرئيس المعزول لكن التونسيين كشفوا المجموعة المصرية التي أُرسلت إلى بلدهم وعرفوا خطة عبد الناصر وكشفوها لبومدين. أرسل الأخير وزير خارجيته بوتفليقة إلى القاهرة ليطلب من عبد الناصر أن يكف عن طلب صديقه بن بلة لأنه مواطن جزائري وليس مواطنا مصريا.

بوتفليقة والعسكر
كان العسكريون في مجلس قيادة الثورة بمن فيهم بومدين نفسه يملكون تجربة متواضعة في تصريف الشؤون السياسية وإدارتها. لكنهم وجدوا أنفسهم بحكم مسؤولياتهم في الحكم، منخرطين في مشاكل السياسة الجزائرية العويصة. وكان بوتفليقة بحكم تجربته في وزارة الخارجية التي تولى إدارتها بعد موت الوزير السابق محمد خميستي أكثر أعضاء المجلس اطلاعا على الصراعات السياسية في العالم العربي.

فكان من الطبيعي أن يكون هو الناطق الرسمي باسم مجلس قيادة الثورة الجديد. وحين اعترض أحمد مدغري على الدور المتضخم لبوتفليقة أقنعه بومدين بأن وزير الخارجية سيلتزم بتعليمات المجلس. ولعل الخلاف على تضخم دور بوتفليقة كان أول شقاق في مجلس قيادة الثورة فكان على بومدين أن يفصل بنفسه في هذه المشكلة.

بدا لكثيرين يومها أن الرئيس انحاز إلى صديقه القديم. لكن ميل بومدين إلى وزير خارجيته لم يكن مرده الانحياز بل الوعي بأن بوتفليقة رجل ذكي ولبيب. وكان بومدين يعي جيدا أن بوتفليقة وزير يحب الظهور ولم يمانع في إفساح المجال له بذلك، لأنه كان مفيدا للجزائر أن تكون لها واجهة جذابة تمثل سياستها ومواقفها. وقد أدّى بوتفليقة هذا الدور باقتدار.

كانت سياسة الجزائر الخارجية عندما تولى قيادتها بوتفليقة مناصرة لحركات التحرر في العالم الثالث. أخذت الجزائر على عاتقها تصفية العميل تشومبي وإنهاء الحرب الأهلية في الكونغو. ووقفت مع تشيلي في محنتها أيام سلفادور ألليندي. وكانت أول من تبنى جبهة «الفروليمو» في تشاد التي أسسها أبا صديق. وساندت جبهة «الفرولينا» الموزمبيقية و«الجبهة الشعبية» في أنغولا وحركات التحرر في غانا والرأس الأخضر ومدغشقر... كانت إفريقيا ساحة الاختبار المفتوحة للجزائر في مواجهة أعدائها. وهي استطاعت أن تمد جسورها إلى آخر نقطة في القارة السمراء كما ساهمت في تقوية منظمة الوحدة الإفريقية وتمويلها لأنها مثلت مركزا لوحدة شعوب هذه القارة.

الجيش والحزب
يعرف بومدين أنه لم يعمل في فترة حكمه على تطوير الجهاز الحاكم في الدولة. كان يعتقد أنه نجح مع رفاقه في تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي واستطاع أن يبعد عن البلاد شبح الحرب الأهلية التي كادت أن تنزلق إليها في السنوات الأولى بعد الاستقلال. أما مهمته الأساسية بعد التحرير واستتباب السلطة، فهي بناء جهاز قوي قادر على تسيير مؤسسات فتية وهشة، وبلا تجربة. ولما كان مجلس قيادة الثورة الذي تشكل غداة «حركة التصحيح» في 19 حزيران 1965م هو الجهاز الوحيد الذي يحافظ على لحمته عمل على أن يكون هذا المجلس فوق كل جهاز آخر في الدولة ولتكون مهمة بناء الجزائر الجديدة الهدف الأساس للمرحلة.

ولعل هذا التوجه هو الذي جعل البعض يتهم بومدين ورفاقه بالديكتاتورية. ولكن الرجل كان يقدّر بتجربته وثقافته أن تسيير الدولة يحتاج إلى إظهار القوة والبأس. وقد تعلم بومدين منذ كان جندياً أن جيشا مَهْما كان عدده وعتاده وقوته لايمكنه أن ينتصر بدون قيادة حازمة وصلبة.

كانت أكبر المشاكل التي اعترضت طريق الجزائر بعد استقلالها، العلاقة الشائكة بين الجيش الوطني وحزب جبهة التحرير. فقد كان هناك التباس دائم في الجزائر وخارجها وسؤال حائر يحاول أن يعرف من الذي يقود البلاد حقا؟ لم يكن بومدين الذي عرف عنه انضباطه الدقيق وحبه للنظام معاديا بطبعه للمدنيين كما أشيع عنه. صحيح أنه كان قائدا لجيش التحرير، لكن ضباط ذلك الجيش لم يتخرجوا من كليات عسكرية، ولم يتعلموا أن يناوروا بالذخيرة البيضاء بل كان جل جنوده من المدنيين: أبناء المزارعين والرعاة والعمال والصناع وطلبة المدارس الدينية... هؤلاء كلهم تدربوا على القتال في الأرياف والأحراش والغابات والجبال وأزقة المدن العتيقة من دون مدربين أو معلمين. وكان بومدين نفسه طالب علم في الجامع الأزهر ينتمي إلى هؤلاء الجنود الثوريين.

ومنذ ان انتمى الرجل ورفاقه إلى جيش التحرير شعروا أن الجيش هو صمام الأمان الوحيد للثورة. بيد ان بومدين كان يعلم أيضا أن قيادة الدولة ليست مثل قيادة الثورة، لذلك حاول دائما أن يزاوج بين دور الحزب ودور الجيش في قيادة الجزائر. كان يعرف أيضا ان ضباط جيش الجزائر لم يعودوا كما كان أسلافهم في سنوات التحرير من أهل النقاء الثوري. وكان يخشى دائما أن تصبح الدولة في قبضة الجيش مثلها مثل أية دولة في أفريقيا. لقد كبر الجنرالات الجزائريون واكتسبوا كل عيوب جنرالات العالم الثالث. كثيرون منهم ضلّوا الطريق، فانتفخت رؤوسهم، وكروشهم، وجيوبهم.

كانت الجزائر القوية هي شغل بومدين الشاغل وشغل رفيق دربه بوتفليقة أيضا. وقبل أن يلفظ بومدين أنفاسه الأخيرة قال للدكتور عبد الوهاب الورغلي أحد اطبائه الذين أشرفوا على علاجه: «قولوا لمن يأتي من بعدي أن يعملوا من أجل قوة الجزائر. قولوا لهم إن هذه هي وصية بومدين الأخيرة». لعل هذه الكلمات نفسها هي وصية بوتفليقة اليوم.

تقرير : محمد العيد وجعفر البكلي - من ملف : الجزائر تطوي صفحة بوتفليقة - الأخبار

المزيد في هذا القسم:

المزيد من: الأخبار العربية والعالمية