المرصاد نت - متابعات
قرار المشير خليفة حفتر بدفع من المحور الإماراتي ـــ السعودي ـــ المصري حسْمَ الصراع الدائر في ليبيا عسكرياً لمصلحته ارتبط بقناعته وحلفائه بأن جملة تطورات محلية وإقليمية ودولية جعلت هذا الخيار ممكناً. فالانقسامات التي برزت في الفترة السابقة بين القوى الموالية لحكومة الوفاق في طرابلس والتحول في الموقفين الأميركي والروسي بالإضافة إلى الانكفاء التركي والجزائري ـــ لأسباب داخلية في البلدين ـــ عن الساحة الليبية جميعها عوامل أسهمت في تعزيز الاعتقاد بقدرة حفتر والمحور الداعم له على تحقيق نصر سريع والسيطرة الكاملة على البلاد، لكن ذلك لا يبدو قابلاً للتحقق.
يرى مصدر واسع الاطلاع على الشأن الليبي أنه حتى في أفضل السيناريوات بالنسبة إلى خليفة حفتر وهو تدخل مكثف لطيران دول المحور إلى جانب قواته فإن ذلك «قد يسمح بسيطرته شكلياً على العاصمة، ولكن الحرب ستستمرّ في أرجاء البلاد». عدم حصول مثل هذا التدخل يفتح الباب أمام سيناريوات أخرى بينها احتمال انكسار الهجوم وعودة قوات حفتر إلى الشرق واتجاه الأوضاع نحو تقسيم ليبيا. ولا شك في أن التعقيد الشديد للواقع الاجتماعي ـــ السياسي هناك، وطبيعة مشروع حفتر «التوحيدي» وقوى محور الثورة المضادّة التي ترعاه، هي من بين الأسباب الرئيسة التي تحول دون نجاحه.
يصعب فصل الحرب التي يشنها حفتر على حكومة الوفاق عن الهجوم المضاد الذي بدأه المحور الإماراتي ـــ السعودي ـــ المصري في أكثر من ساحة، لفرض هيمنته على قسم واسع من العالم العربي. يرى المصدر الواسع الاطلاع أننا «أمام مسعى لإعادة تشكيل ما سمّي قبل الثورات العربية محورَ الاعتدال أي تحالف دول النفط مع أنظمة الحلّ الأمني، مع انضمام إسرائيل إليه». كما يبدو بحسب المصدر أن «فرض هيمنة هذا المحور على الإقليم، كقوة وكيلة للولايات المتحدة، هو أحد الأهداف الكبرى لصفقة القرن تماماً كما كانت عملية التسوية، من المنظور الأميركي والإسرائيلي، مدخلاً لبناء الشرق الأوسط الجديد». كما أن التأييد الذي أعلنه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لحفتر والذي يقطع مع مواقف وزارة الخارجية الأميركية و«البنتاغون»، المتحفّظة على الخيار العسكري، مؤشر إضافي على أن عرّابي محاولات هندسة الإقليم للمرة الثانية ـــ أي الفريق الذي يضمّ ترامب، كوشنير، بولتون، نتنياهو، بن زايد، بن سلمان، والسيسي ـــ يعملون يداً بيد رغم وجود اعتراضات من بعض الأطراف الأميركية والأوروبية.
قرار الحرب في ليبيا ارتبط بتقدير لموازين القوى انطلق من تطوّرين بارزين: هما افتقاد حكومة الوفاق للظهير الخارجي الفاعل والانقسامات التي سادت في مرحلة سابقة بين القوى الموالية لها. تمتّعت هذه الحكومة، والمجموعات السياسية ـــ العسكرية المؤيّدة لها، بدعم تركي ـــ قطري وكذلك جزائري قُدّم بعيداً عن الأنظار. يقول المصدر الذي تحدّث لـ«الأخبار»: «قبل بداية الحرب الحالية، شهدنا انكفاءً تركياً ـــ قطرياً عن ليبيا، بسبب التحديات التي واجهها البلدان كالحصار على قطر والضغوط والمشكلات المتزايدة التي تتعرض لها تركيا وحكومة العدالة والتنمية وآخرها نتائج الانتخابات البلدية التي لم تكن مرضية بالنسبة إليها.
كذلك يُقرّ قادة المجموعات المسلحة في الغرب الليبي الموالية لحكومة الوفاق بتراجع المساعدات العسكرية الخارجية، خاصة الإمداد بالذخائر». الوضع نفسه ينطبق على الجزائر التي لم تعد لاعباً على الساحة الليبية؛ «فهي كانت تساند مجموعات في الشمال الغربي، كالزنتان والأمازيغ، وتوقفت عن ذلك»، بحسب المصدر الذي يضيف: «أما في الجنوب الغربي، فقد أدّى توقف دعمها لقبيلتَي أولاد سليمان والمقارحة، المحسوبتين على النظام السابق، إلى قيامهما بتغيير ولائهما والانضمام إلى معسكر حفتر». كذلك قطعت دولة الجزائر دعمها عن الطوارق الذي عُدّ أحد قادتهم، علي كنه، رجل الجزائر في الجنوب الغربي، والذي «تحرك لصدّ حفتر، لكنه فشل في ذلك وتراجع بسبب غياب الدعم». وحصل الأمر عينه مع قبائل التبو «التي قاتلت حفتر وهزمت تكتيكياً». هذه المعطيات جميعها عزّزت الاعتقاد لدى المشير وقيادته بسهولة تحقيق الانتصار ميدانياً.
معطى آخر يذكره المصدر واسع الإطلاع، أسهم بدوره في تعزيز هذا الاعتقاد هو «الخلافات السياسية التي كانت سائدة بين قوى رئيسة في الغرب الليبي والتي أتاحت له فرصة استمالة بعضها، كقبيلة ترهونة مثلاً (وترهونة هو اسم المدينة التي تقطنها القبيلة) ومدن ساحلية كصبراتة وصرمان والعجيلات». وهو يذكر أن «إقليم طرابلس أي الغرب الليبي يشكّل من ناحية المساحة 30% تقريباً من التراب الوطني، ويضمّ أكثر من 60% من السكان وتتمركز فيه أهم مؤسسات الدولة وشركاتها، كالبنك المركزي وشركة النفط الوطنية وشركات الكهرباء والماء والمؤسسات الحكومية... إلخ». كذلك إن «أهم قوة عسكرية في الغرب هي مدينة مصراتة التي تمتلك قوة عسكرية كبيرة» هي «البنيان المرصوص»، أي تحالف الكتائب التي شاركت في العملية التي حملت الاسم نفسه ضد «داعش». تليها الزنتان، وهو اسم القبيلة والمدينة أيضاً، المنقسمة اليوم بين أقلية وازنة والت حفتر وأغلبية مؤيدة لحكومة الوفاق.
هناك أيضاً المجموعات المسلّحة الطرابلسية وهي ميليشيات محلية في أحياء المدينة وكذلك قوات مدينة الزاوية. مع العلم أن سلطة حكومة فايز السراج على هذه المجموعات كانت ضعيفة سابقاً وقد اندلعت نزاعات بين بعضها، وبات قطاع معتبر من الرأي العام غاضباً منها. غير أن الهجوم الذي شنّه حفتر قد وحّد هذه القوى والمجموعات وظهر ذلك جلياً من خلال قدرتها على وقف هذا الهجوم بعدما حقّق تقدّماً محدوداً في بداياته.
المشهد الميداني اليوم تغلب عليه المراوحة منذ أسبوعين بين كرّ وفرّ من الجهتين ولم يستطع حفتر تحقيق أي إنجاز عسكري جدّي ولا أيّ انقلاب في ولاءات مجموعات طرابلس أو حتى مجموعات بني وليد، الموالية للنظام السابق أو الزاوية. وقد انضوت أهم مجموعات الغرب العسكرية تحت قيادة غرفة عمليات «بركان الغضب» للدفاع عن العاصمة. وعاد الانسجام بين الحكومة بقيادة السراج، ووزير الداخلية فتحي باشاغا. لم ينجح حفتر إذاً، «على الرغم من أن لديه غرفتين للعمليات، واحدة تضم إلى قياداته العسكرية نظراء لهم إماراتيين ومصريين وفرنسيين، وأخرى من الممكن تسميتها غرفة الهندسة القبلية وهي تجمّع خبراء عملوا لحساب النظام السابق وظيفتها اكتساب ولاء القبائل في تحقيق نصر سريع رغم مبادرته بالحرب» بحسب ما يقول المصدر.
ووفق المصدر نفسه فإن «حفتر رغم كونه من مدينة ترهونة في الغرب يستند إلى عصبية قبائل إقليم برقا أي الشرق الليبي». وأبرز هذه القبائل هي «العواقير والدرسة والعبيدات والمغاربة وهي القوة المقاتلة الأساسية في جيشه». ويعتبر أهل الإقليم أنهم «ضحايا لظلم تاريخي فقد أدّوا دوراً مركزياً في النضال من أجل الاستقلال» إذ إن عمر المختار من الشرق وكذلك الملك إدريس ولكن إقليم طرابلس استأثر بالسلطة والثروة. ويشير المصدر إلى أنهم «يوالون حفتر بناءً على مقايضة وهي تصحيح الظلم المشار إليه واحتلال الشرق للموقع الذي يستحقّه في أي نظام سياسي سينشأ لاحقاً» قبل أن يستدرك بالقول: «لكنهم يقاتلون اليوم خارج إقليمهم وإن لم يتحقّق الانتصار بسرعة وما يرافقه من مكاسب فإن المقايضة بينهم وبين حفتر تصبح مهدّدة».
تظهر الوقائع الميدانية أن الشرط الحاسم لتقدم قوات حفتر هو حصولها على دعم جوي من الدول الحليفة. ومن الظاهر أن الأمور تتطوّر في هذا الاتجاه بعد المواقف الأميركية والتأييد الفرنسي والدعم الروسي. ولكن يرى المصدر أنه «حتى لو تمكّنت قواته من الدخول إلى العاصمة فإن مجموعات المعارضة ستقاتله في محيطها وفي أنحاء البلاد الأخرى ولفترة طويلة جداً». ويضيف: «من دون دعم جوي، ستتراجع قوات حفتر نحو الجيوب التي سيطرت عليها في الغرب وتستمرّ في محاولاتها لتكرار هجماتها وفي محاولاتها شراء ولاءات قبائل أخرى. أما في حال نجاح حكومة الوفاق في شنّ هجوم مضاد لطرد قوات حفتر من الغرب، فإن هذه الأخيرة ستتقهقر إلى الشرق وسيصبح خيار بناء مؤسسات دولة موازية لتلك القائمة في الغرب أكثر احتمالاً مع ما يعنيه ذلك من شرعنة تقسيم ليبيا».
فرنسا وإيطاليا... كلٌّ يدعم «مُهراً» في «حرب الظل»
كل الدول تتقاتل في ليبيا. وعلى الرغم من تغييب الأزمة الليبية منذ أكثر من ثلاثة أعوام إلا أن الواقع الأخير الذي تشهده يسلّط الضوء على العدد الكبير للاعبين الدوليين هناك على اختلاف مصالحهم وأدوارهم المبهمة أو الواضحة في تسعير القتال وتحريك اللاعبين المحليين، بما يخدم هذه المصالح.
إيطاليا وفرنسا عضوا الاتحاد الأوروبي يخوضان حربهما الخاصة في هذا البلد الإفريقي. وفيما يظهر الخلاف بينهما واضحاً عبر وجهات النظر المتناقضة والتصريحات الكلامية الهجومية، إلا أن ما يجمعهما هدف واحد قوامه البترول.
برز هذا الخلاف في كانون الثاني الماضي عندما اتّهم وزير الداخلية الإيطالي نائب رئيس الوزراء ماتيو سالفيني فرنسا بأن ليس من مصلحتها استقرار ليبيا مُرجعاً ذلك إلى أن لباريس «مصالح نفطية تتناقض مع المصالح الإيطالية». هجوم زعيم حزب «الرابطة» («رابطة الشمال» سابقاً) لم يتوقّف عند هذا الحد بل عزا تدفق المهاجرين إلى حدود أوروبا بسلوك «البلد الجار» في إفريقيا لأنه يوجد بالنسبة إليه «من يسلبون هذه الشعوب خيراتها ومن الواضح أن فرنسا من بين هؤلاء». كلام سالفيني جاء في إطار استمرار حرب كلامية شهدت استدعاء وزارة الخارجية الفرنسية السفيرة الإيطالية بعدما اتهم لويجي دي مايو وهو نائب آخر لرئيس الوزراء الإيطالي باريس بإشاعة الفقر في إفريقيا والتسبب في تدفق المهاجرين بأعداد كبيرة إلى أوروبا.
الأمر لا يرتبط بالمهاجرين وحدهم. وبالتأكيد لا يخفى على أحد أن ما يقف وراء التوترات العالية بين فرنسا وإيطاليا، مصالح مادية ملموسة في ليبيا، حيث تتقاتل عشرات الميليشيات، منذ الحرب التي شنّها «حلف شماليّ الأطلسي» في عام 2011م وحيث يقود عضوا الاتحاد الأوروبي حرباً بالوكالة بهدف السيطرة على أكبر موارد النفط والغاز في إفريقيا. إلا أن نقطة التحوّل الأساسية، وفق مجلة «لو بوان» الفرنسية، كانت منذ وصول سالفيني إلى وزارة الداخلية، في حزيران الماضي وما ظهر على إثر ذلك من خلاف كبير بشأن ليبيا وضع روما في مواجهة باريس.
بكلام آخر لا يتعلّق الأمر بالمهاجرين الذين يغادرون الساحل الليبي إلى صقلية ولكن أيضاً بالبترول الذي تستغله شركة «إيني» الإيطالية تقليدياً في هذه المستعمرة القديمة فيما يسود اعتقاد في روما بأن المناورات الفرنسية تخفي مشروع فرض شركة «توتال» بدل الشركة الإيطالية. نتيجة لذلك تدعم كل دولة «مهراً» في حرب الظل الليبية على حدّ تعبير المجلّة الفرنسية التي تعزو تفاقم الأزمة إلى الخصومة الناشئة على مدار أشهر بين الرئيس إيمانويل ماكرون وماتيو سالفيني.
حتى الآن لا تزال إيطاليا تدعم حكومة «الوفاق الوطني» برئاسة فايز السرّاج في طرابلس فيما يأخذ كثيرون على فرنسا مأخذاً بسبب «موقفها الغامض». وبينما تشعر روما بالمرارة نظراً لواقع أن فرنسا تقود جهوداً دبلوماسية وغيرها في ليبيا متجاهلة الدور الإيطالي في هذا المضمار وصل البعض إلى حدّ الشكّ في أن لدى باريس نيّة لتنصيب خليفة حفتر رئيساً أخذاً بالاعتبار سيطرته على غرب البلاد وغالبية الحقول النفطية.
بناءً عليه، أشارت «لو بوان» إلى أن باريس تؤمّن لحليفها حفتر المعلومات الاستخبارية المهمة والاطلاع التكتيكي الذي يسمح له بالحد من قدرات الجهاديين في مدن الغرب. وتضيف أن القوات الفرنسية الخاصة والكومندوس التابعة لخدمة المديرية العامة للأمن الخارجي، تجمع في إقليم برقة المعلومات الاستخبارية كما تدمّر خلايا «داعش». كذلك، ترافق العمليات التي يقوم بها جيش حفتر، «في مهمّات محفوفة بالمخاطر» شهدت عام 2016م مقتل جنود فرنسيين. في تلك الفترة كان وزير الخارجية مصطفّاً مع المجتمع الدولي الذي يعترف بنظام طرابلس رغم أن وزارة الدفاع تدعم منافسه في بنغازي. فمنذ تسميته من قبل ماكرون، أعلن وزير الدفاع جان إيف لودريان أن «ليبيا بحاجة إلى بناء جيش وطني بمشاركة كل القوى التي تحارب الإرهاب عبر البلاد بما فيها تلك التي تنتمي إلى الجنرال حفتر تحت إدارة السلطة المدنية».
إلا أن ما ركّز عليه العديد من وسائل الإعلام في الفترة الماضية، كانت وثيقة صادرة عن «المؤسسة الألمانية للعلوم والسياسة» التابعة للحكومة ذُكر فيها أن فرنسا «وفّرت الدعم السياسي وربما أشكالاً أخرى من الدعم لعمليات حفتر في الجنوب كما منعت شركاءها الغربيين من الإدلاء ببيانات مشتركة بشأن هذه المسألة». العديد من المراقبين مقتنعون بأن فرنسا مشغولة قبل أي شي بالمصالح النفطية وأن المنافسة بينها وبين إيطاليا في هذا الشأن هي السبب الأساسي وراء الحرب الأهلية القائمة في ليبيا. وكما يقول وزير الخارجية السابق في حكومة طبرق محمد الدايري في مقابلة مع الصحيفة السويسرية «تريبون دو جنيف»، فإن الأوساط المطلعة في ليبيا تربط القتال المسلّح بـ«المنافسة بين المجموعتين الإيطالية إيني والفرنسية توتال». هذا الأمر يتردّد على لسان الكثير من الخبراء الذي يرون أن أساس الخلاف هو البترول، مؤكدين في الوقت ذاته أن من مصلحة العملاقين النفطيين الإيطالي والفرنسي بسط سيطرة حكومة ليبية موحّدة على حقول النفط، على أن تبقى المنافسة بينهما هناك كما هي في أي بلد آخر.
هجوم طرابلس: قرار خليجي بضوء أخضر أميركي
أستطاع العسكري الليبي القوي خليفة حفتر اغتنام لحظة تاريخية للانقضاض على حكومة «الوفاق الوطني» والسيطرة على كامل ليبيا تمثلت بأربعة عوامل:
أولاً : الحملة التي تقودها السعودية والإمارات على ما يسمى «الإسلام السياسي» ولا سيما قطر وتركيا اللتان تربطهما علاقات قوية بالحكومة المعترف بها دولياً.
وثانياً : حماسة «المحمدين»، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، لـ«اقتحام» هذه المنطقة (المغرب العربي والقرن الإفريقي) بثورات مضادة تجهض الاحتجاجات المشتعلة في الجزائر والسودان أو بتثبيت نفوذهما بقواعد عسكرية كما في الصومال وجيبوتي وإريتريا.
وثالثاً: اقتراب نهاية الولاية الأولى للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يدعم توجهات حلفائه الخليجيين من دون النظر إلى تداعياتها الإقليمية والدولية وإن كانت تخدم بعض سياسات روسيا والصين. وفي هذا الإطار، يريد حفتر استغلال عهد ترامب للسيطرة على ليبيا بضوء أخضر أميركي ودولي قبل الدخول في انتخابات رئاسية أميركية غير مضمونة النتائج بعد ما يقارب عاماً ونصف عام.
رابعاً: الموقف الدولي خصوصاً الأوروبي المنقسم حول مستقبل البلاد في ظلّ تقاطعات مصالح يعلم حفتر أن بمقدوره جذبها إليه إذا وضع فرنسا وإيطاليا أمام الأمر الواقع بسيطرته على كامل ليبيا.
ولم تكن عملية «تحرير طرابلس» التي يقودها الرجل الطامح إلى حكم ليبيا منذ الانقلاب على النظام الملكي الليبي عام 1969م سوى حلقة أخيرة من سلسلة تحركات قادها في فترة سابقة، تحت عناوين محاربة الإرهاب وبضوء أخضر غربي (كان وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان، يشيد بها)، من شأنها منحه السيطرة على الجزء الأكبر من البلاد، وتمكينه من تطويق العاصمة بعمليات ركزت على السيطرة على المدن وحقول النفط والقواعد العسكرية القديمة بما لا يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة وأوروبا بل بما يخدمها أحياناً لناحية ضرب التنظيمات المتشددة والحدّ من الهجرة غير الشرعية وهما أمران باتا ملخص مطالبات دولية كثيفة لحكومة السراج بضرورة تسويتها.
لم تكن العملية التي سبقت موعد عقد «الملتقى الوطني» برعاية بعثة الأمم المتحدة، الذي كان مقرراً منتصف نيسان/ أبريل الحالي نتيجة انسداد مسار الحل السياسي في ليبيا. فما سبق الهجوم من حراك دبلوماسي للرجل والدول المعنية ولا سيما الولايات المتحدة ومحور السعودية ـــ الإمارات ـــ مصر يشي بأن إجهاض جهود الأمم المتحدة جاء في سياق مخطط للسيطرة على الجنوب وتطويق طرابلس تمهيداً للهجوم عليها.
فقبل تحرك قوات عسكرية تابعة له نحو المنطقة الغربية التي تتبع «الوفاق» مطلع الشهر الحالي بحجة «تطهير ما بقي من الجماعات الإرهابية» وسيطرته على عدد من المدن والقرى في المنطقة الغربية، كانت الإدارة الأميركية قد عينت سفيراً جديداً لها في ليبيا نهاية الشهر الماضي على رغم عدم انتهاء مدة السفير السابق، ما وضعه مراقبون في حينها في إطار اعتزام إدارة ترامب تنفيذ سياسات جديدة في البلاد خصوصاً أن ذلك أتى بعد ثلاثة أيام على زيارة حفتر للسعودية بدعوة من المملكة، حيث اجتمع مع الملك سلمان وولي عهده وزير الدفاع محمد بن سلمان وعدد من المسؤولين السعوديين، من بينهم رئيس الاستخبارات العامة، خالد بن علي الحميدان. وبحسب التسريبات التي خرجت آنذاك أبلغ حفتر السعوديين استعداده لدخول طرابلس وطلب منهم دعماً جوياً على غرار الدعم الإماراتي والمصري بالإضافة إلى دعم مالي لحكومته المؤقتة في المنطقة الشرقية التي تعتمد في تسيير ميزانيتها على القروض من المصارف الليبية، فيما أعلنت حكومة «الوفاق» قبل الزيارة بأسبوع ميزانيتها لعام 2019م بقيمة فاقت 28 مليار دولار.
وبدا قرار إجهاض المسار السياسي الأممي، قبل زيارة حفتر الرياض بشهر حين عقد مع رئيس حكومة «الوفاق» فائز السراج اجتماعاً في أبو ظبي بقي مضمونه حبيس الغرف المغلقة في أبو ظبي والدوحة أيضاً التي توجه السراج إليها بعد أسبوعين لإعلامها بنتائجه فيما كان حفتر قد أعلن عن «تعزيزات عسكرية ضخمة... باتجاه المكان المعلوم والمحدد مسبقاً من قبل من قيادة الجيش» كما جاء في بيان صادر عن مكتب إعلام القوات المسلحة التابعة له. ما يعني أن مضمون اجتماع أبو ظبي السلبي كان معداً له بما لا يمهد لعقد «الملتقى الوطني» الذي ترعاه الأمم المتحدة. ويرجّح مراقبون أن تكون الإمارات نفسها وراء فشل الاجتماع لدفع حفتر إلى الهجوم على طرابلس.
وما يؤكد أن قرار الهجوم متخذ خارجياً، المواقف والمعطيات على الأرض خلال الهجوم وقبله. وهو ما لم تخفه حكومة السراج إذ كشفت رسمياً عن جانب من هذا الدعم، الذي بدا أيضاً بموافقة أميركية عبّر عنها ترامب في اتصال مع حفتر يوم الجمعة الماضي حين أشاد بدوره «المهم في مكافحة الإرهاب وضمان أمن موارد ليبيا النفطية» بحسب بيان للبيت الأبيض. وناقش معه أيضاً «رؤية مشتركة لانتقال ليبيا إلى نظام سياسي مستقر وديموقراطي» بعد أيام من عرقلة واشنطن مشروع قرار بريطاني في مجلس الأمن يُطالب بوقف فوري لإطلاق النار.
أما ميدانياً فبدا الترتيب الإماراتي والمصري المسبق في دعم حفتر عسكرياً في الهجوم، سواء عبر المشاركة بسلاح الجو أو عبر إرسال قوات على الأرض كشفت تسريبات إعلامية عن بعض جوانبها أخيراً بالحديث عن أن الإمارات أرسلت قوات متخصصة بتسيير الطائرات من دون طيار التي دخلت المعركة لأول مرة بعدة غارات جوية هزت العاصمة مساء السبت الماضي.
مراهنات الحرب الخطرة
عندما قرر خليفة حفتر شنّ هجوم على طرابلس أراده أن يكون كحبّةِ كرزٍ فوق كعكة انتصاراته التي بدأت بسيطرته على مجمل شرق ليبيا ثم أجزاء واسعة من جنوبها ووسطها. ربما جاء الهجوم قبل عشرة أيام من موعد انعقاد «الملتقى الوطني» مفاجئاً من ناحية التوقيت لكن التخطيط لدخول طرابلس كان يجري منذ أمد بعيد. فلم تغب طرابلس بثقلها الديمغرافي والسياسي لحظة عن ذهن الرجل. وهو منذ أطلق «عملية الكرامة» عام 2014، كان يطمح إلى تكوين جسد سياسي جديد يدعمه بعملية عسكرية ليحكم البلاد. هذا التوجه استوحاه حفتر من تجربة عبد الفتاح السيسي في مصر وهو لم يخف ذلك في حواراته مع الصحافة كذلك جاء بدعم وتشجيع من الإمارات والسعودية في إطار مشروع القضاء على «الإسلام السياسي».
وانضمت فرنسا إلى هذا التحالف بدفع من هواجسها لمحاربة «الإرهاب»، لكن تلك ليست سوى «حجة» تخفي مشروعها الفعلي الذي يتحدث عنه التاريخ: هو الوصول إلى أنظمة ديكتاتورية علمانية في إفريقيا أو مجمل العالم الثالث.
مضت الأيام وتغيرت معطيات كثيرة وأفضت الجهود الدولية إلى عقد صفقة مصالحة كان أعداؤها أكثر من مسانديها. مع ذلك تشكلت حكومة «وفاق وطني» يديرها مجلس رئاسي يشمل أعضاءً من جميع مناطق البلاد، وتصدّر سياسيون تكنوقراط جبهة الغرب فيما استمر الحال على ما هو عليه في الشرق حيث تمركز حفتر. وبذلك، صارت حكومة «الوفاق» معترفاً بها دولياً وخسر الإسلاميون وأنصار الثورة الأكثر راديكالية مواقعهم الأمنية في طرابلس لكنهم احتفظوا ببعض التأثير في «المجلس الأعلى للدولة» وهو هيكل استشاري تشكل بموجب اتفاق المصالحة وكذلك في بعض المؤسسات المهمة الأخرى.
بات الأمن في طرابلس بيد ميليشيات محلية أخذت تتوسع وتنغمس داخل الدولة لكن مدينتَي مصراتة والزنتان، المحيطتين بالعاصمة حافظتا على بعض التمركزات داخلها خاصة بعدما عقدتا اتفاق مصالحة العام الماضي لتجاوز آثار القتال بينهما عام 2014 (كانت قوات الزنتان حينها موالية لحفتر، وقوات مصراتة موالية لـ«فجر ليبيا»)، وحافظت مجموعات أخرى أيضاً على مواطئ قدم مثل «القوة الوطنية المتحركة» التي ينحدر أغلب أعضائها من الأمازيغ. والتفّ كل هؤلاء حول حكومة «الوفاق» وإن كانت طبيعة علاقتهم معها تقوم على الدعم المشروط والابتزاز في أحيان كثيرة. لكن، في المقابل حافظ حفتر على ولاء بعض المجموعات العسكرية في المدن القريبة من طرابلس وحاول تكوين دعم شعبي له عبر استقبال أعيان مناطق غربية. ولهؤلاء دور مهم في استراتيجيته للسيطرة على طرابلس.
فشل إذاً المسعى الأولي للسيطرة على طرابلس عام 2014م لكنه لم يذهب أدراج الرياح إذ يعلم حفتر أن من يحكم العاصمة يحكم البلاد. الخطة البديلة التي أطلقها بداية الشهر، تقوم على تحريك خلاياه في طرابلس (أساساً في مدن غريان ترهونة، صبراتة)، ثم دعمها من عدة محاور بعناصر قوية ومنظمة استجلبها من مناطق سيطرته الأخرى. كان حفتر يأمل أن يباغت حكومة «الوفاق»، التي تعاني من تشرذم ونزاعات داخلية وأن يستحصل دعماً من سكان طرابلس والمدن المحيطة الذين ملّوا من عجز الحكومة عن ضبط الأوضاع وتسيب الميليشيات.
لكن هذه الخطة لم تنجح أيضاً حتى الآن بل وضعت أغلب قوات المنطقة الغربية خلافاتها جانباً وتوحدت ضد حفتر عدوها المشترك. وهي الآن تقاتل جنباً إلى جنب مع قوات طُردت من العاصمة ونُكّل بها من مهربي بشر ووقود مدانين ومجموعات طُردت من بنغازي تُتهم بأنها أقامت سابقاً تحالفاً مع «أنصار الشريعة» وميليشيات طرابلسية. وقد سمح ذلك لحكومة «الوفاق» بأن تحافظ على وجودها لكنه في الواقع يهدد مستقبلها إذا نجحت في صدّ قوات حفتر ودحرها. فبقدر ما مثل هذا التحالف سنداً لحكومة «الوفاق» مثل أيضاً خاصرتها الرخوة في صراعها مع حفتر حول الدعم الدولي. إذ يهمس الدبلوماسيون الغربيون بأسماء الميليشيات المشبوهة هذه ويستخدمونها كذريعة لعدم دعم «الوفاق» رغم أنهم هم من حرصوا على تشكيلها وما زالوا يعترفون بشرعيتها ممثلاً وحيداً لليبيا.
ويتفق أغلب المراقبين اليوم على أن الصمت الدولي تجاه ما يحصل في طرابلس يعكس رغبة لدى اللاعبين الدوليين في انتصار حفتر وتمكين المشروع الإماراتي ـــ السعودي من تأسيس أنظمة ديكتاتورية علمانية (طبعاً يُغضُّ البَصر عن جحافل السلفيين المدخليين المنخرطين ضمن قوات حفتر حيث يُنظر إليهم كقوة طيّعة يمكن ضبطها بفتوى سعودية).
أمام كل هذا لم يبق لحكومة «الوفاق الوطني» حلفاء واضحون كثر بخلاف قطر وتركيا وهؤلاء يدعمونها بدورهم ضمن الدفاع عن مشروعهم الإقليمي ويمكن تدخلاً خارجياً مباشراً داعماً لحفتر أن يقلب الطاولة عليها. لكن لا تزال توجد لديها أسلحتها من سبيل تحذيرات للأوروبيين من تدفق عشرات آلاف المهاجرين نحو سواحلهم علماً أن خطر انهيار الحكومة المعترف بها لا يهدد أوروبا فقط، فهو يُنذر أيضاً بإحداث شروخ اجتماعية بين مدن وقبائل قد تشعل فوضى تمتد إلى أعوام.
وليد شرارة . علي جواد الأمين , حبيب الحاج سالم - الأخبار
المزيد في هذا القسم:
- 122 ضابطا اسرائيليا وامريكيا في قاعدة الملك فيصل السعودية' الاسماء' المرصاد نت - متابعات كشفت رئيسة حزب "ميرتس" اليساري الليبرالي في الكيان الاسرائيلي زهافا جال أون عن أسماء 122 ضابطا من الجيشين الإسرائيلي والاميركي العاملين ف...
- السعودية والإمارات وعقدة سلطنة عمان ! المرصاد نت - متابعات عجزت السعودية والإمارات طوال العقد الماضي عن جرّ سلطنة عمان إلى مستنقعها أو حرف سياستها الخارجية "المعتدلة" عن مسارها وحتى محاولات التغيي...
- ميركل وماكرون لجونسون : 30 يوماً لإيجاد حلّ لمسألة الحدود ! المرصاد نت - متابعات فتح اللقاءان اللذان أجراهما رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون، خلال اليومين الماضيين مع كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئي...
- سياسي أمريكي يقترح محاكمة بايدن وإدارته بتهمة الإبادة الجماعية لسكان دونباس المرصاد-متابعات طالب السياسي الأمريكي عضو الحزب الديمقراطي، جيف يانغ، بمحاكمة الرئيس جو بايدن وإدارته بتهمة قتل المدنيين في دونباس، والإبادة الجماعية للسكان هن...
- التطبيع في عهد بن سلمان: هل بدأت المرحلة الإسرائيلية؟ المرصاد نت - متابعات يبدو أن بعض دول مجلس التعاون الخليجي قرّرت الدخول إلى المرحلة الإسرائيلية بشكل علني. المرحلة الجديدة تقتضي رفع مستوى التطبيع الإعلامي وال...
- كيف أسّس انتصار تموز لنهاية الاعتماد الأميركي على حروب "إسرائيل"؟ المرصاد نت - قاسم عز الدين المساعي الإسرائيلية الحثيثة في المراهنة على أن تتولّى أميركا بنفسها الحرب على إيران تكشف أن أميركا لم يعد بوسعها بعد انتصار تموز، ال...
- العربية والجزيرة ركزتا على "ميسي" وتجاهلتا أسماء الأسر الحاكمة .. الإعلام الخليجي وفضيحة ... متابعات : استيقظ العالم صباح الاثنين على خبر تسريب 12 مليون وثيقة عن إنشاء شركات بأموال شخصيات متهربة من الضرائب في بلدانها.رؤساء دول وحكومات ووزراء وملوك وأمر...
- زلزالان بقوة 6.4 و5.8 درجات يضربان ولاية هاتاي جنوبي تركيا المرصاد-متابعات ضرب زلزالان جديدان بقوة 6.4 و5.8 درجات ولاية هاتاي جنوبي تركيا، مساء اليوم الاثنين، وامتدت آثارهما إلى مناطق الشمال السوري، كما شعر بهما سكان ل...
- 11 قتيلاً و64 جريحاً بانفجار سيارة مفخخة جنوب شرق تركيا المرصاد نت - متابعات قتل 11 شخصاً وأصيب 64 آخرون اليوم الجمعة بانفجار سيارة مفخخة بالقرب من مبنى لشرطة مكافحة الشغب في قضاء “جيزرة” بولاية شرناق ج...
- «الناتو العربي» في انتظار الإعلان: واشنطن تؤسّس لحروب جديدة المرصاد نت - متابعات لم يعد الحديث عن «الناتو العربي» مجرد تسريبات أو تكهّنات. بشكل رسمي أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب من على منبر الجمعية ال...