واشنطن ترفض الانسحاب من العراق: هل تتحمّل الثمن؟

المرصاد نت - متابعات

قالت إيران كلمتها بوجه العدوان الأميركي والتصعيد الأمني باغتيال القائد أبو مهدي المهندس والجنرال قاسم سليماني ورفاقهما بالردّ العسكري عبر الغارة الصاروخية على قاعدتَي أربيل وعين US Army2020.1.11الأسد. في السياسة كذلك الحال فتحت الجمهورية الإسلامية مواجهتها سواءً بإعلانها الدعم الصريح لمعركة إخراج الأميركيين من المنطقة أو التنصّل من أهم القيود المنصوص عليها في الاتفاق النووي من دون التجاوب مع الوساطات العربية والغربية النشطة الآن بهدف التهدئة. الدور يأتي الآن على حركات محور المقاومة في المنطقة والتي ستعبّر عن توجّهها الجديد في المرحلة المقبلة بخطاب صريح وبرنامج عمل.

هذا الدور يتوزّع على جبهتين. الأولى، الجبهة السياسية وهو ما بدأ يظهر في العراق مع إصرار حكومة عادل عبد المهدي على تنفيذ قرار البرلمان بانسحاب القوات الأجنبية من خلال تقديم طلب رسمي للولايات المتحدة لوضع آلية لسحب قواتها. وقد حظي قرار الحكومة والبرلمان، أمس بجرعة دعم من المرجعية الدينية في النجف والتي شدد ممثلها في خطبة الجمعة على أن لا دور لـ«الغرباء» في قرارات العراق. الثانية هو العمل الأمني والعسكري ضد الوجود الأميركي العسكري في المنطقة والذي لا يمكن التكهّن بقرار تصاعده وتوسّعه ومدياته الزمنية وإن كان انسداد أفق إخراج الأميركيين من العراق بواسطة التحرّك السياسي والدبلوماسي سيعزز خيارات فصائل المقاومة.

على المقلب الأميركي يسعى الرئيس دونالد ترامب في استثمار عملية اغتيال سليماني داخلياً وخارجياً عبر تعديل رواياته وتضخيمها حدّ تأكيد أنباء أن سليماني كان يريد تفجير سفارة بغداد بجانب 3 سفارات أخرى. أما باتجاه إيران فأعلنت الحكومة الأميركية ردّها على قصف قاعدتَيها بفرض عقوبات إضافية طالت ثمانية مسؤولين، بينهم الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني ورئيس هيئة الأركان العامة العميد محمد رضا أشتياني، وقائد «الباسيج» غلام رضا سليماني. بالإضافة إلى 17 شركة للتعدين وإنتاج الصلب والألمنيوم.

وفيما رفضت إدارة ترامب طلب العراق الانسحاب، فإنها تواصل محاولة إقناع «الناتو» بالاضطلاع بدور أكبر. وبين الأهداف الداخلية والخارجية، رمى ترامب بموقفه الموارب حول العراق أمس، حين قال «لا مشكلة لديّ في الانسحاب»، لكنه أضاف: «القادة العراقيون لا يطلبون ذلك في المحادثات الخاصة» وكأن «شرعية» بقائه تتعلق بنوايا عملائه لا بقرارات البرلمان والحكومة! بما يؤكّد أن الأميركيين ذاهبون لتحمّل كلفة البقاء، فيما خطاب الاستعداد للانسحاب لا يعدو كونه يتعلّق بحسابات ترامب الداخلية مثله مثل عبارة «إعادة التموضع» التي بدأ يروّج لها الأميركيون في العراق فقط لتمرير المشهد الصاخب وتجنّب السخط الرسمي والشعبي وتحييد جنودهم.

فصائل المقاومة ترفض أيّ تحايل أميركي: واشنطن تطلب «إعادة التموضع»
بعد قطيعة دامت أياماً، رفض خلالها رئيس الوزراء العراقي المستقيل الإجابة عن اتصالات واردة من العاصمة الأميركية واشنطن عاد عادل عبد المهدي، أول من أمس إلى تلقّي اتصال من وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو. وفق البيان الصادر عن عبد المهدي فقد طلب الأخير من بومبيو «إرسال مندوبين إلى العراق لوضع آليات تطبيق قرار البرلمان بالانسحاب الآمن لقواته»، مستنكراً «دخول تلك القوات إلى البلاد وتحليق مسيّراتها في الأجواء من دون إذن حكومي، في مخالفة للاتفاقات النافذة». وإذ وعد بومبيو بـ«متابعة الأمر واحترام الولايات المتحدة السيادة العراقية» فقد أكد أن واشنطن تطلب إعادة تموضع القوات الأميركية المنتشرة على طول الجغرافيا العراقية حيث تشغل أكثر من 10 قواعد عسكرية في ظلّ تقديرات ميدانية بأن عديدها يربو على الـ 25 ألف عسكري وأخرى حكومية بأنه لا يتجاوز الـ 10 آلاف، وثالثة أميركية تدّعي وجود 6 آلاف عسكري فقط.

وفي مقابل إصرار عبد المهدي على تنفيذ القرار البرلماني القاضي بانسحاب غير مشروط للقوات الأجنبية، وتمسّكه بوضع جدولة زمنية لخروجها لا تتجاوز الـ 18 شهراً، تفيد معلومات «الأخبار» بأن الجانب الأميركي لا يزال مصرّاً على البقاء في العراق، وعدم الخروج منه متذرّعاً بـ«أسباباً موجبة» لذلك، منها متابعة «القضاء على تنظيم داعش، وتدريب القوات العراقية، وحماية القوات الأميركية المنتشرة من أيّ هجوم قد تتعرّض له». هذا التوجّه عاد وعبّر عنه بومبيو أمس قائلاً ــــ وبصراحة ــــ إن بلاده «حريصةٌ على حماية الشعبين الأميركي والعراقي، ومصالحنا». ووفقاً للمعلومات، فإن واشنطن تسعى، فقط، إلى «إعادة تموضع قواتها»، وتحديداً في المناطق الغربية والشمالية على أن تنسحب ــــ في المقابل ــــ من المناطق الجنوبية والوسطى، حيث الأغلبية الشيعية. لكن بغداد تبدي إلى الآن تمسّكاً بضرورة البحث في «حلول جذرية» رافضة أيّ تحايل من قِبَل الولايات المتحدة من أجل الإبقاء على قوّاتها. وفي هذا السياق، يبدو لافتاً أن عبد المهدي سيحلّ، اليوم السبت، ضيفاً على عاصمة «إقليم كردستان» أربيل، في أول زيارة رسمية له منذ تولّيه منصبه، حيث سيجتمع بالمسؤولين هناك ويبحث معهم «جملة قضايا مهمة».

لكن، في مقابل تلك المعلومات ثمة من يقول إن السلطات العراقية تسعى إلى إعادة تنظيم الوجود الأجنبي على أراضيها بما فيه المجموعات العاملة تحت عنوان التدريب وفق مذكرات تفاهم جديدة. وهو ما ترفضه فصائل المقاومة العراقية. إذ تقول مصادرها إن أيّ سيناريو من شأنه تثبيت الرؤية الأميركية لن يكون مقبولاً. وإذ تُجدّد المصادر أن الردّ العراقي على اغتيال نائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس وقائد «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني، الفريق قاسم سليماني لم يقع بعد، فهي تلفت إلى أنها تنتظر ما ستسفر عنه المساعي الدبلوماسية العراقية الجارية مع الجانب الأميركي، فضلاً عن أنها تعكف على إعداد بنك أهداف وبرنامج عمل متكامل في ما بينها من شأنه إيلام الاحتلال، وفرض الانسحاب غير المشروط عليه.

على خطّ مواز، بدا لافتاً، أمس، الحضور الجماهيري الضعيف في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد في أعقاب دعوة ناشطين إلى «مليونية»، تمّ الترويج لها على أساس شعارات مشبوهة، من بينها المطالبة ببقاء قوات الاحتلال في البلاد تفادياً لأيّ حصار يمكن أن تفرضه الولايات المتحدة على العراق إن انسحبت منه. هذه الشعارات جعلت الدعوات الأخيرة معرّاة من أيّ غطاء سياسي، وأثارت حالة من التشكيك في الشارع الذي أحجم عن تجديد زخم التظاهرات على رغم التغطية الإعلامية الكبيرة من وسائل ومنصات عالمية. مشهدٌ دفع بالبعض إلى القول إن الشارع نعى نفسه، بعدما ضيّع سابقاً فرصة الخروج بآليات إصلاحية لمعالجة المشكلات العاصفة بالبلاد. بدورها دعت «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني) جميع الأفرقاء إلى «التعاون والتكاتف، وترجيح المصالح العامة عليها»، مشددة على ضرورة الاستجابة لمتطلّبات الإصلاح وفق الخريطة التي تكرّر الحديث في شأنها، أي الانتخابات النيابية المبكرة على اعتبار أنها «المخرج الصحيح من هذه الأزمة».

جنون الرجل الأبيض: جريمة الاغتيال في سياقها الدولي
جريمة اغتيال الفريق الشهيد قاسم سليماني حدث دولي من الدرجة الأولى، ليس لأن القوة الامبريالية الأولى (إلى الآن) اقترفتها فقط، بل لِما أثارته من مواقف وردود أفعال تكشف حقيقة سياسات الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى الوازنة، وطبيعة الاستقطاب المتزايد على الصعيد العالمي. وضْع الجريمة في سياقها الدولي يُظهر تعاظم شراسة التحالف الغربي الذي يضمّ الولايات المتحدة وأذنابها الأوروبيين وإسرائيل دفاعاً عن موقعه المهيمن، ولكن المتراجع، في مقابل القوى غير الغربية الصاعدة من روسيا والصين، مروراً بإيران وحتى تركيا، وصولاً إلى البرازيل. سياق واحد يربط بين الاستراتيجية الهجومية المعتمدة من قِبَل الإدارة الأميركية ضدّ الصين وروسيا، وسياسة حافة الحرب المتّبعة ضد إيران، والضغوط المستمرة على تركيا، والعودة إلى تنظيم الانقلابات في أميركا اللاتينية كما حصل في البرازيل والاكوادور وبوليفيا ومثلما جرت المحاولة في فنزويلا، سِمَته الرئيسة تحكّم القوى الفاشية وشبه الفاشية بقيادة التحالف الغربي. إذا كان وصول هذه القوى إلى السلطة في بعض الديمقراطيات العريقة قد عَبّر عن ذعر الرجل الأبيض أمام الفقدان المتسارع لسيطرته التي امتدّت 5 قرون على العالم، فإن السياسات الخارجية التي شرعت بها تشي بأن هذا الذعر قد بلغ درجة الجنون. دونالد ترامب هو رمز هذه المرحلة من تاريخ «الحضارة الغربية»، وأصدق ناطق باسمها.

 جريمة إسرائيلية - أميركية
أسباب كثيرة كان من الممكن أن تدفع الامبريالية الأميركية إلى اغتيال القائد العسكري لمحور المقاومة لكن السبب الأول والرئيس، وهو أيضاً سبب التصعيد الأميركي الحالي ضدّ إيران واستراتيجية «الضغوط القصوى»، هو دوره في تطوير القدرات العسكرية والصاروخية لأطراف المحور في مواجهة إسرائيل. وكما أن فكرة «الضغوط القصوى» هي فكرة إسرائيلية تبنّتها الأطراف المؤيّدة لإسرائيل عقائدياً كوزير الخارجية مايك بومبيو ونائب الرئيس مايك بنس، أو أيديولوجياً كمستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، وتولّت إقناع الرئيس الأخرق بها، فإن «اقتراح» اغتيال الفريق سليماني قُدِّم من قِبَل الفريق نفسه وللأسباب عينها. لم تكن هذه الجريمة هي الأولى التي ترتكبها الولايات المتحدة دفاعاً عن إسرائيل، ورغبة في تأبيد تفوّقها العسكري على الإقليم. لقد غزت العراق عام 2003 ودمّرته وقامت بتفكيك الدولة ومؤسساتها وبتسعير الانقسامات الطائفية والإثنية في المجتمع بإشراف المحافظين الجدد، وهم مجموعة من الصهاينة المعتوهين، للغاية ذاتها أي تأبيد التفوّق الإسرائيلي على العرب والمسلمين.

سياسة الولايات المتحدة في منطقتنا حتى اليوم وهذا ما تؤكده جريمة الاغتيال هي أولاً سياسة إسرائيلية، والقوى السياسية العربية والمثقفون الذين «نأوا» بأنفسهم عن إدانتها بحجة خلافات أيديولوجية مع إيران ومحور المقاومة أو سياسية تتعلّق بدورهما في الصراع الدائر في هذا البلد العربي أو ذاك، يتعامون عن هذه الحقيقة. اغتيل الفريق سليماني نتيجة دوره المركزي في المواجهة مع إسرائيل قبل أيّ اعتبار آخر، وأضعف الإيمان بالنسبة إلى أيّ معنيٍّ بالقضية الفلسطينية هو إدانة هذه الجريمة على الأقلّ.

الأوروبيون أذناب للولايات المتحدة
منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة، راهن الكثيرون على أن سياساته الاستفزازية حيال حلفائه الأوروبيين ستشجّعهم على إحياء مشروع بناء سياسة خارجية ودفاعية مشتركة ملائمة لمصالحهم، وعلى مواجهة الصَّلَف الأميركي دفاعاََ عنها. صدرت بعض المواقف التي عزّزت مثل هذه الرهانات عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خاصة عندما تحدث أخيراً عن «الموت الدماغي» لحلف «الناتو»، وأكثر من تصريح في الاتجاه نفسه للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ووزير خارجيتها هايكو ماس. لكن بمجرّد أن تُقدِم الولايات المتحدة على مغامرة عدوانية، كما فعلت عندما حاولت قلب النظام الوطني في فنزويلا أو عندما نجحت في ذلك في بوليفيا، وكذلك عند اغتيالها الفريق سليماني، نجد الدول الأوروبية تقف عملياً في صفها، وتقدّم لها الغطاء السياسي والأعذار. اغتيال سليماني، المسؤول العسكري الرسمي خلال زيارته إلى العراق، يمثل انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي والمواثيق والأعراف الدولية التي لا تنفكّ الدول الأوروبية تُذكّر بها في بياناتها عندما يتعلّق الأمر بإدانة مواقف أو ممارسات معيّنة تقوم بها روسيا أو الصين أو إيران على سبيل المثال لا الحصر. فلْنتصوّر أن تُقدِم أيّ من هذه الدول الثلاث على اغتيال مسؤول أميركي خلال زيارة يقوم بها خارج بلاده وردّ الفعل المهول الذي كان سيسبّبه مثل هذا العمل. بين الدول الأوروبية والإدارة الأميركية الحالية خلافات فعلية، لكنها تُفضّل حتى اليوم، وكما تُثبت مواقفها، الانقياد خلفها في حروبها وصراعاتها مع القوى غير الغربية، لأنها تأمل أن تحتفظ بموقع الشريك الثانوي معها. من يراهن على سياسة أوروبية مستقلة كَمَن ينتظر غودو.

سياسة الجنون ومعركة التحرّر
الجناح الأكثر فاشية في المؤسسة الحاكمة الأميركية يقود التحالف الغربي «الأبيض» في معركة الدفاع عن تأبيد سيطرته على بقية العالم ومقدّراته ومصائر شعوبه، وهو لا يتورّع عن العودة إلى أساليب كاغتيال القادة السياسيين والعسكريين والانقلابات التي ظنّ بعض الحالمين والمثاليين المغفّلين أن زمن «العولمة السعيدة» قد عفا عليها. وكلّما أدرك هذا الجناح، المؤلّف من عتاة العنصريين والمتطرفين الدينيين والصهاينة أن موازين القوى تتحوّل إلى غير مصلحته، ازداد شراسة وعدوانية واستعداداً لخوض مغامرات مجنونة.

من اللافت أيضاً أن ائتلاف الأوغاد المذكور يلجأ دائماً إلى اختيار رئيس أحمق لاستخدامه كواجهة لمخطّطاته ومشاريعه. صقور الحرب الباردة في بداية الثمانينيات اختاروا ممثلاً فاشلاً من الدرجة الثانية وشديد البلاهة هو رونالد ريغان ليكون مرشحهم، بينما لعب مسؤولون كألكسندر هيغ وجورج بوش الأب وجورج شولتس دوراً حاسماً في توجيه السياسة الأميركية آنذاك. الأمر نفسه ينطبق على إدارة بوش الابن الأحمق بدوره والذي كان يُدار من قِبَل الثنائي شيني - رامسفيلد، بالإضافة إلى عصابة المحافظين الجدد. ليس سراً أن لبومبيو وبنس تأثيراً مشابهاً على ترامب حالياً. هل تستطيع شعوب المنطقة وقواها الحيّة، مهما كانت خلفياتها الفكرية - السياسية أن تقف على الحياد عندما يشرع هذا الفريق بهجوم مضادّ قد يُحوّل المنطقة بأسرها إلى كتلة من لهب، ويقضي على أبسط مقوّمات الاستقلال والنهضة فيها؟ يعتقد هذا الفريق وأنصاره أنه بعد تدمير العراق وسوريا خدمةً لإسرائيل بات المطلوب راهناً ضرب إيران لتستطيع الولايات المتحدة من بعدها الالتفات إلى معركتها الرئيسة مع الصين. توحيد الصفوف في مواجهة هذا الهجوم المضادّ بين القوى الحيّة في الأمّة شرط لهزيمته وحماية شعوبها من المصير المظلم الذي يُرسم لها.

المزيد في هذا القسم:

المزيد من: الأخبار العربية والعالمية