المرصاد نت - يحيي دبوق
إحدى أهم نتائج استعادة مدينة حلب أنها ثبّتت في وعي أعداء الدولة السورية قصورهم وعجزهم عن إسقاطها هو واقع جديد يفضي بدوره إلى نتائج فرعية من بينها فقدان «داعش» دوره الوظيفي في الضغط على سوريا.
قرار قيادة التنظيم «القتال حتى الموت» ليس إلا تعبيراً عن منحى استباقي لقرار وضع مصيره على طاولة المساومات صوب اجتثاث «داعش» ومن شأنه أن يحول «أصدقاء» الأمس إلى أعداء
التنكيل والقتل وحرق الأسرى والمخطوفين وغيرها من الفظائع هي أفعال مسبوقة لتنظيم «داعش» ولا جديد فيها، لكن قتل جنديين تركيين حرقاً هو فعل غير مسبوق، ومستهجن، ولا مصلحة لـ«داعش» في أن يقدم به على التصعيد، أو ما من شأنه التسبب في تصعيد بوجه الأتراك، لا ابتداءً ولا كرد فعل على ما قد تقدم عليه أنقرة.
هذه هي السياسة العملية المعتمدة لـ«داعش» في كل من العراق وسوريا. استمرت وتأكدت لسنوات منذ أن بدأ وجوده وتوسعه في البلدين، ربطاً باستراتيجية التخادم المتبادل بينه وبين الولايات المتحدة وتركيا بما ينسحب أيضاً على المرحلة التي أعقبت قرار أنقرة التدخل العسكري المباشر في سوريا من اليوم الأول للقرار، حرص «داعش» على الامتناع عن مواجهة الجيش التركي، بل سهّل له المهمة بدءاً من جرابلس مروراً بدابق وصولاً إلى تخوم الباب كما حرص على تسهيل المهمة حيال التوسع العسكري التركي في أرياف هذه المدن.
مع ذلك قررت قيادة التنظيم المواجهة وكان بدء تنفيذ القرار قاسياً من ناحية تركيا. النتيجة حتى الآن عشرات القتلى والجرحى من الجيش التركي، مصحوبة بقتل جنديين تركيين أسيرين لدى التنظيم منذ مدة، حرقاً بصورة بشعة ومذلة، وتصويرهما وبثّ المشاهد للمزيد من الإذلال لأنقرة، الأمر الذي يتجاوز كونه مجرد رسالة تحذير كي تمتنع الأخيرة عن القفز على التفاهمات بل يصل إلى حدّ إعلان الحرب عليها فما الذي دفع قيادة «داعش» إلى كسر تفاهمات «الوضع القائم»، علماً بأن وجوده واستمراره مرتبطان بالموقف التركي منه؟
يجب قراءة تصعيد «داعش» ضمن سياقاته في كل من العراق وسوريا، وما يُقدّر أنه قراءة لقيادته تتعلق بما تراه من خطورة للدور التركي، الذي بدا لها أنه انتقل أو يتجه من الدور الراعي والمسهل لمهماته إلى التصدي المباشر له. لا جدال في أن هذا التنظيم نما وتعزز وتوسع بفضل العامل التركي ومن ورائه الأميركي. فمعادلة التخادم المتبادل كانت هي الحاكمة بين الجانبين: الدور الوظيفي الذي اضطلع به التنظيم في محاربة و«تخويف» أعداء الهيمنة الأميركية والتركية وما يسمى «محور الاعتدال» في المنطقة. لقد كان حتى الأمس يصبّ في مصلحة المحور الأميركي وتركيا ما دفعهما إلى «السماح» له بالتنامي وتأمين عوامل استمرار وجوده أي كان وجود «داعش» وتعززه وسيلة قتالية في مواجهة الأعداء ومن جهة ثانية كان الدعم التركي شريان حياته ووجوده واستمراره وفرصة مؤاتية لتحقيق أهدافه، حتى الافتراق بين الجانبين.
ضمن هذه المعادلة كانت تُمنع هزيمة «داعش» بل يجب الإبقاء عليه، كما حال الجماعات المسلحة الأخرى، إلى حين ترتيب الوضع في البلدين سوريا والعراق بما يخدم المصلحة الأميركية وأيضاً التركية رغم الخلاف بينهما حيال دور الكرد في سوريا. من ناحية أنقرة وواشنطن ما لم تتحقق النتيجة مسبقاً على مرحلة «ما بعد داعش» سيحافظ الجانبان على ما من شأنه الإبقاء على التنظيم ومنع هزيمته بل مدّه بشريان الحياة والبقاء.
المستجد الذي طرأ على هذه المعادلة بدأ في الساحة العراقية وتحديداً ما يتعلق بمدينة الموصل وقرار استعادتها من «داعش،» وهو ما يعني اجتثاثه من العراق حرص الأميركيون لسنوات على ضرورة سحب إقرار مسبق من بغداد بترتيب لمرحلة «ما بعد داعش» يكون عماده «إقليماً سنياً» شبيهاً بالإقليم الكردي ويؤمن المصالح الأميركية وإلا لا هزيمة لـ«داعش» بل استمرار لبقائه. لكن نفوذ واشنطن المستعاد في مرحلة رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي وانصياع الأخير عملياً للخطوط الحمر والإملاءات الموضوعة منها حيال كل ما يجري في بلاده، أتاحا للإدارة الأميركية الرهان على إمكان تحقيق «إقليم سنّي» في مرحلة ما بعد طرد التنظيم بصورة مباشرة أو غير مباشرة وذلك بفرض حقائق ووقائع سلسة ميدانياً وفي أعقابها سياسياً.
كانت الخطة الأميركية متمحورة كما بدت حينذاك ولاحقاً حول عاملين اثنين: نقل «داعش» من العراق طواعية إلى الأراضي السورية ومنع إشراك «الحشد الشعبي» في العمليات العسكرية، شبه الصورية في موازاة عملية النقل وأعقابها.
هذه المقاربة كانت مكشوفة، وتسرّبت أخبارها وأهدافها إلى الإعلام، بل كانت المرشحة للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون قد أعلنتها خلال إحدى مناظراتها في سباق الانتخابات، بتأكيد أملها في أن تصل إلى الرئاسة وتكون «عملية تجميع داعش من العراق إلى المنطقة الشرقية لسوريا قد انتهت بالفعل». لم تلقَ هذه المقاربة «استحساناً» لدى «داعش» الذي قرر التصدي في الموصل. شعرت قيادة التنظيم أن قرار اجتثاثها قد آن، فعملت على التصدي له و«القتال حتى الموت»، كما ورد على لسان أميرها، أبي بكر البغدادي.
حالياً بعدما تعذر الانتقال السلس لـ«داعش» من العراق إلى شرقي سوريا، كان أمام الأميركيين خيار من ثلاثة: فرملة الاندفاعة نحو الموصل، أو مواصلة القتال مع ثمن تدمير المدينة وقتل مدنييها، كما حدث في الرمادي رغم الفارق في منسوب التداعيات السلبية على مشروعها للإقليم السني، أو السماح لـ«الحشد الشعبي» بتحرير المدينة. كما يبدو اختار الأميركيون، حتى الآن، الخيار الأول، بانتظار قرار الإدارة الجديدة. وكان هذا هو الاختراق الأول والأهم في بنيان المعادلة القائمة بين الأميركيين والأتراك من جهة، و«داعش» من جهة أخرى، في حين ان مصير المعركة هناك لا يزال مجمداً.
«الاختراق» الثاني للمعادلة، بين «داعش» والأتراك تحديداً، وجد تعبيره في الساحة السورية، وهو مبني أيضاً على انتهاء الدور الوظيفي للتنظيم. تقاطع المصلحة ضد الكرد، الذي مكّن الأتراك من الدخول العسكري المباشر بلا معارك إلى الشمال السوري، أنهى مهمته وقدرته على التأثير في موقف الطرفين ومراعاة أحدهما الآخر، وذلك بعدما لمست قيادة التنظيم الخطر التركي المتشكل، وإمكان نقض التفاهمات، ما دفعها إلى الخيار الأصعب: التصدي للأتراك.
التطورات الأخيرة على الموقف التركي حضرت لدى البغدادي، كما يبدو، وبما يشي بالأصعب. قرأ زعيم «داعش» أن هناك تقاطعاً مستجداً في المصالح بين التركي والروسي، وإلى حدّ ما أيضاً مع الإيراني، رغم ثابتة علاقات أنقرة بواشنطن، ما يعني توجه تركيا إلى مقاربة جديدة تتجاوز التفاهمات السابقة حول ضرورة التصدي للتهديد الكردي المشترك في ما يتصل بمحاربة «داعش» نفسه. ما يزيد منسوب قراءة البغدادي للخطر، قرب تولي الإدارة الأميركية الجديدة مهماتها في واشنطن، وهي تعلن أنها ستقارب الساحتين، العراقية والسورية، بمضمون مخالف للإدارة السابقة، بمعنى أن «واشنطن الجديدة» لن تمانع كذلك «حصاد داعش».
حرق الجنديين هو من ناحية فعلية «رسالة طلاق» داعشية لتركيا وترجمة عملية لإرادة «القتال حتى الموت»، التي تستبق، أو في موازاة، الطلاق الذي تتجه إليه تركيا مع التنظيم، بعدما تغيّرت وتقلصت أهداف أنقرة، قسراً في سوريا، في ظل عجزها عن تحقيق الأهداف الابتدائية، بمعنى إسقاط الدولة السورية. بهذا المعنى قرار «داعش» استباقي، وجاء نتيحة لقراءة قيادة التنظيم أن دوره الوظيفي لدى الراعي الرئيسي له قد انتفى أو يتجه إلى الانتفاء الفعلي.
المزيد في هذا القسم:
- صحيفة فيلت الألمانيه.. الإمارات مستنقع كحول ودعاره ومدنها معالم غربيه المرصاد نت - متابعات دوله طارئه في التأريخ .. عمرها لأيتجاوز الأربعين عام .. كانت مجرد ساحل يعود ملكيته لسلطنة عمان ... ظهرت بأوائل العشريه السابعه من القرن ا...
- القوات العراقية تقتحم كركوك بمئات الدبابات وهروب جماعي للقوات الكردية المرصاد نت - متابعات فاجأت القوات العراقية الولايات المتحدة وحكومة كردستان العراق وأطلقت عملية عسكرية واسعة بمشاركة مئات الدبابات والآليات العسكرية واقتحمت مح...
- شهيد من سرايا القدس في انفجار بغزة والصهاينة يقتحمون باحات الأقصى وقبر النبي يوسف المرصاد نت - القدس استشهد مواطن فلسطيني وإصيب اثنان آخرين، اليوم الإثنين جراء انفجار داخل بركس قرب الإدارة المدنية بجباليا شمال القطاع.ونقلت وكالة ” ...
- «وصفة» البشير بعيون الخبراء: ليس بالطوارئ يُحارَب الفساد! المرصاد نت - فاطمة المبارك يبرّر الرئيس السوداني حالة الطوارئ التي فرضها الشهر الماضي بالظروف الاقتصادية أكثر من السياسية لكن معظم التقديرات تفيد بأن هذا الإجر...
- الإرهاب الإعلامي: بين تفخيخ الطفولة وتلطيخها بالدماء المرصاد نت - متابعات إرهاب طفولي تكفير إعلامي وشيطنة للملائكة عبارات قصيرة في كلماتها كبيرة في مفهومها تلخّص حجم الكارثة التي يمرّ بها أطفالنا اليوم تارةً بسب...
- القمة الأوروبية ــ الأفريقية الخامسة: الهجرة والأمن طريق «الشراكة»! المرصاد نت - متابعات تشكّل قضيتا الهجرة والأمن محور القمة الأوروبية ــ الأفريقية الخامسة التي تعقد اليوم وغداً في أبيدجان بحضور رؤساء دول وحكومات 83 دولة. وأع...
- أزمة الشرق الأوسط .. الاسباب والحلول المرصاد نت - متابعات لا يعاني الشرق الاوسط من فوضى وعدم الاستقرار فقط بل يعيش حالة من اتساع الاضطراب والاختلال نتيجة لسياسات الولايات المتحدة الامريكية في الم...
- هل بدأت الحرب العالمية الثالثة ؟ المرصاد نت - متابعات في نزاع حدودي بين الصين والهند قُتِل اليوم عشرين هندياً من قبل الجنود الصينيين في الحدود الهندية الصينية على جبال الهملايا اليوم في اعنف ...
- بوريل: دعونا لا نتوهم.. وقف النفط والغاز من روسيا لن يوقف الجيش الروسي المرصاد-متابعات قال الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن "الدول التي تعتمد على النفط والغاز الروسيين يصعب عليها التخلي عنهما". وق...
- فلسطين القضية الأم.. والمتآمرون عليها المرصاد نت- متابعات لست بالتأكيد ممن يجيدون العودة إلى الوراء في مصافحة التاريخ بعيداً عن المستجدات من الأحداث لأن المستجدات هي أكثر نضجاً في الأحداث من حولنا ...