هل يدفع اليمين الصاعِد أوروبا لحقبة جديدة من الاستعمار؟

المرصاد نت - محمد علوش

لم تعد أيديولوجيات اليمين المتطرّف مجرّد نزعات فئوية لمجموعات مهمّشة في المجتمعات الغربية. تلك الفئات التي ظلّت دهراً تقتات على التعصّب والحنين للماضي وتتغنّى بالنقاء والتفوّق Europian2019.5.28العرقي في الوقت الذي كانت فيه المجتمعات الغربية تتقدّم خطوات نحو ثقافة التفاهُم والتفاعُل الحضاري.
اليوم يغزو الفكر اليميني المتطرّف الشارع الغربي بفعل الخطاب السياسي للأحزاب اليمنية ووسائل الإعلام التي تقدّم خطاباً ينتهي خطُّه التحريري عند الأرضية التي تنطلق منها موجات الإسلاموفوبيا والعداء للمهاجرين والمختلفين ثقافياً وعرقياً.
انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت مؤخّراً في 21 بلداً عضواً في الاتحاد الأوروبي لاختيار 571 نائباً في البرلمان الأوروبي، أوضحت بما هو أكثر من كافِ عن تحوّل النزعة إلى ظاهرة مُتفشية ومُتغلغلة في غالب طبقات المجتمعات الأوروبية.
وعلى الرغم من عدم وجود اتفاق علمي موحّد لتعريف اليمين المتطرّف، إلا أن القواسم والسّمات الجامعة بين أحزابه تبدو شديدة الوضوح والتماسُك، وباعثةً على التعاون والتنسيق العابر للحدود القُطرية التي يتأسّفون أصلاً على تجاوزها بفعل العولمة!
العداء لمطلق المختلفين، سواء كان اختلافاً عرقياً، أو دينياً، أو ثقافياً، أو انتماءً جغرافياً، هو رابط قوي بين مختلف الأحزاب اليمينية التي تنطلق منه نحو تقديم تعريف للمواطنة قائم على أساس القرابة الدموية التي تستبطن الاستعلاء والنقاء للذات وتحقير وتبخيس للآخر، مشحوناً بدوغمائية مكثفة تظهر المختلِف همجياً خبيثاً متواضع الذكاء، منزوع القدرة على التكيّف، ولا تحق له المساواة في الحقوق مع الأكثرية الطاغية داخل القُطر أو الفضاء السياسي الواحد كحال الاتحاد الأوروبي.
أمّا التعدّدية الثقافية فهي بدعة هدّامة للمجتمعات القوية التي من طباع أفرادها الدفاع المستميت عن التقاليد القومية في إطار هوية إثنو-وطنية.
في هذا الإطار من التمشّي، تنزع الأحزاب اليمنية إلى رفض بعض مقتضيات الرأسمالية والليبرالية خوفاً على المجتمع من التفسّخ والتحلّل الأخلاقي. ولا تجد جداراً حامياً للمجتمع ومنظومته القِيَميّة أكثر من الحدّ من الهجرة وتعميم ثقافة الارتياب والخوف وصوغ خطاب عدواني إقصائي متعالٍ ديماغوجي، شكلاً ومضموناً.
لا يمكن حصر أسباب صعود اليمين المتطرّف بموجات الهجرة الشرعية وغير الشرعية من شرق وجنوب البحر المتوسّط نحو أوروبا خاصة في سنوات الاضطراب الثماني الفائتة. كما لا يمكن فَهْم هذه التحوّلات تحت ضغط تنامي حركات العنف الديني المسلح مثل القاعدة وداعش، وما ارتكبته أيديهم من جرم بحق العزّل المدنيين في الحواضر الغربية.
وإذا كان لكل بلد بعض أسبابه الخاصة، فإن فشل النخب السياسية التقليدية في القيام بدورها، وكذلك عجز الأنظمة الاقتصادية عن توفير الرفاه أو الكفاية المطلوبة في ظل تنامي الحاجيات، وتوحّش العولمة التي راكمت ثروات الأغنياء وأفقرت المزيد من الطبقة المتوسّطة، عوامل أساسية في تفشّي ظاهرة اليمين المتطرّف الذي وجد في الثورة المعلوماتية وتدفّق المعلومات وسهولة التواصل مع الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي كبديل للإعلام التقليدي المنضبط ، وسائل مُجدية في الحشد لمشروعه السياسي والاجتماعي من ناحية، وفي إبراز الخوف على الهوية الثقافية للمجتمعات التقليدية من ناحيةٍ أخرى.
وإذا كانت ظاهرة الرئيس ترامب ألهمت قوى اليمين في أوروبا في سعيها إلى السلطة وفي الاستحواذ على الجماهير، فإن الدراسات الاستشراقية القديمة لعبت دوراً حاسماً في احتلال "الإسلام" و"المسلمين" صفة "العدو المفترض" من دون منازع عند هذه القوى نتيجة الصورة النمطية عن المسلم التي تكرّس التخلّف والغباء والعنف والغدر والبربرية.
وبعيداً عن المتغيّرات على صعيد الشأن الداخلي للدولة الوطنية في حال استلم اليمين المتطرّف دفّة الحكم، فإن أولويات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي أو لدوله القُطرية ستتغيّر تبعاً لعمق وقوة هيمنة اليمين المتطرّف على مؤسّسات صنع واتخاذ القرار.
ولا يُستبعد، والحال كذلك، أن ينهار الاتحاد الأوروبي وتتلاشى فكرة المواطن الأوروبي أمام القوميات الجديدة التي تحنّ إلى حقبات الاستعمار المتوحّشة. وسواء تجاهلنا -نحن العرب- واقع ما تعتمل به المجتمعات الأوروبية أو ألقينا لها بالاً، فإن الأقدار شاءت أن تكون مصائر ضفتيّ البحر المتوسّط متشابكة ومتداخلة بشكل لم يعد لأحد قدرة على فصل القضايا والأزمات عن بعضها أو الحيلولة من دون تأثر أو تأثير في الآخر على الضفة المقابلة.
وإذا ما نال اليمين المتطرّف التمكين الذي يصبو إليه في الغرب، فإن القلق من موجات استعمارية جديدة تتناسب مع ما تفرضه ثورة المعلوماتية من متطلبات أمرٌ ليس فيه مبالغة البتة، خاصة أن نجاح المشروع السياسي والاجتماعي لقوى اليمين يتطلب المزيد من الموارد والمواد الخام التي لا تتوافر في أوروبا بقدر ما هي كامنة في الأراضي المنهوبة جنوباً.
ولا شيء يسهّل من الاستحواذ على هذه الموارد، ويحدّ من تدفّق المهاجرين، ويقلّل من ظاهرة العنف الديني المسلّح في العالم الإسلامي من تكريس الدكتاتوريات في المنطقة ودعمها والترويج لها ومنحها الغطاء الدولي لإبقاء الشعوب في دائرة الاستنزاف والهشاشة الضامِنة للاستقرار السياسي والأمني المطلوب.

المزيد في هذا القسم:

المزيد من: الأخبار العربية والعالمية