فلسطين : صفقة ترامب ــ كوشنر عودة الإمبريالية المستنيرة؟

المرصاد نت - متابعات

يجمع العديد من الخبراء الأميركيين على فكرة مفادها أن خطة ترامب ـــ كوشنر لـ«السلام» في الشرق الأوسط، «ولدت ميتة». ذلك ينسحب أيضاً على بعض أركان الإدارة الرئيسيين كوزير Palstiaen2019.6.25الخارجية مايك بومبيو الذي أبدى تشكيكه في قبول الخطة معتبراً أنها «تنصف» الإسرائيليين على حساب الفلسطينيين>>

أقرّ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو باكراً بأن التسوية المقترَحة للصراع العربي ــــ الإسرائيلي «ربّما تُرفض في نهاية المطاف». في حديثه الذي سرّبته «واشنطن بوست» خلال لقاءٍ جمعه بكبرى المنظمات اليهودية الأميركية يشير بوضوح إلى كون الخطّة مُعدّة «لتكون مفضّلة لدى الجانب الإسرائيلي» متسائلاً عن كيفية «إجراء نقاش حقيقي لإخراج هذه الخطة» في ظلّ «عدم توافر ضمانات تجعلنا قادرين على حل الصراع».

الشهادة التي سرَدها أحد أبرز وجوه إدارة ترامب تحاكي الاعتقاد السائد أميركياً بأن الرؤية التي صاغها مستشار الرئيس الأميركي وصهره، جاريد كوشنر لا تتعدّى كونها فكرة غير قابلة للتطبيق، حتى في أفضل الظروف. فكيف الحال إذا ترافقت مع اعتماد سياسة الضغوط القصوى التي تمارسها الإدارة الأميركية على الفلسطينيين. تعتقد الباحثة في «بروكنغز»، تمارا كوفمان ويتس، أن عرض شراء قبول فلسطيني بنتيجة سياسية غير معلن عنها «قد يفسد البيئة لأيّ خطة سياسية»، بينما يجادل الدبلوماسي السابق آرون ديفيد ميلر بأن مقاربة كوشنر ليست جديدة: «لو استطاعت الولايات المتحدة أن تشتري السلام في الشرق الأوسط من خلال التنمية الاقتصادية، لكانت فعلت ذلك منذ زمن». ويخلص مدير «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، روبرت ساتلوف إلى القول إن «الطريقة الوحيدة لحماية الجدوى طويلة الأمد للجوانب الأفضل لخطة كوشنر هي قتل الخطة».

وعليه يرى مايكل يونغ من «معهد كارنيغي» أن الطبخة التي أعدّها كوشنر وفريقه لا تتعدّى كونها نسخة معدّلة لخطة الحكم الذاتي التي طرحها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن في أيار/ مايو 1979م أي الخطة التي منحت الفلسطينيين حكماً ذاتياً محدوداً في الأراضي المحتلة إنما رفضت منحهم دولة. ويشير إلى أن «التفاهة الفائقة القائمة على الافتراض بأنه يمكن مقارنة نزاع وطني عميق واستحواذي بين شعبين بمباراة كرة قدم هو أحد المشاكل العديدة التي تشوب نظرة الولايات المتحدة إلى العلاقات بين الفلسطينيين والإسرائيليين». لكن ذلك الأمر لا ينفكّ يغذّي اعتقاداً يسود أوساط اليمين الإسرائيلي وداعميه الأميركيين مفاده أن السلام يمكن أن يقوم برمّته على تنازل الفلسطينيين وخضوعهم.

من جهته يقدّم مارك إدواردز في تقرير لـ«واشنطن بوست» مقاربة تاريخية مهمة لخريطة طريق «السلام» التي تتبعها الإدارة الأميركية. إذ يعود بنا إلى أيام مضت، حين وافق «مجلس العلاقات الخارجية» على نظام الانتداب باعتباره الطريقة الأكثر لطفاً لتقدّم العرب «المتخلفين». حينذاك، سيطر الحديث عن الحاجة إلى «تحضّر» السكان العرب على صفحات دورية «فورين أفيرز» التي تصدر عن المجلس، ما دفع بكتابها إلى تبنّي مواقف تجاه المنطقة ثابتها الوحيد أنها تتغيّر باستمرار. في العشرينيات، وبينما كانت فلسطين ترزح تحت الوصاية البريطانية، وجد كتاب الدورية أنفسهم قلقين من «حرب مقدسة» محتملة ضدّ بريطانيا. قارنوا بين «التشدد الإسلامي» والشيوعية المتعصبة، وشعروا بالقلق من أن هاتين الأيديولوجيتين قد تندمجان بسهولة في حركة مشتركة ضدّ الغرب. وكانت خشيتهم أن يتم «ابتلاع تركيا بالدوامة المدمرة التي تجتاح روسيا». سرعان ما سيتبدل هذا الموقف حين يأتي أتاتورك. هذه المرة، سينتقل التركيز إلى العربية السعودية، التي اعُتبرت وقتها بمثابة «مقاومة إسلامية للثقافة المسيحية الأوروبية». وحين كانت الخشية كبيرة من «إمبراطورية» ابن سعود، فرض الخبير التشيكي في شؤون المنطقة، الويس موسيل، استخدام «فورين أفيرز» لاقتراح استراتيجية لاحتواء آل سعود.

أفسح «صراع الحضارات» الطريق أمام آمال التحديث السريع في الثلاثينيات والأربعينيات. لكن التفكير الأبوي الذي تقوم عليه هذه السردية، ظلّ ثابتاً. أثنى الكتّاب على توجّه أتاتورك الغربي، معتقدين أن ذلك أدى إلى خصخصة الإسلام. «الشرق كله في طور الانتقال من مرحلة ثقافية إلى أخرى» وفق الفيلسوف الصهيوني هانز كوهن، الذي نسب إلى أتاتورك هذا الإنجاز. في تلك الفترة أيضاً، استندت تقييمات قادة المنطقة في الشؤون الخارجية إلى الذين قدّموا أفضل الممارسات لـ«تحديث السكان». هكذا، قام كوهن وغيره من الكتاب بتحويل ابن سعود بين عشية وضحاها من محارب خطير، إلى حداثوي. خلال الحرب العالمية الثانية، شجّع المؤرخ جويل كارمايكل «مجلس العلاقات الخارجية» على التعرف إلى ابن سعود واحتضان محاولاته لترويض «الحياة البرية» للعرب.Map Palstain2019.6.25

بَحْث المعهد عن حلفاء «متحضّرين» في المنطقة أنتج توجهاً صهيونياً قوياً. كان كوهن و كارمايكل مجرد صهيونيين أيّدا الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين. آخرون، بمن فيهم قاضي المحكمة العليا (لاحقاً) فيليكس فرانكفورتر، جادلوا باكراً بأن «اليهود الأوائل» كانوا أفضل عملاء للغرب لتطوير «المتخلّفين» من الداخل. حينها، قال كتاب «فورين أفيرز» إن الصهاينة سيحكمون فلسطين على أساس تعاوني محايد روحياً. كانوا يبحثون عن «اندماج اقتصادي» مع جيرانهم العرب، والاستفادة منهم كعمال بدلاً من استعمارهم. إن الدولة التي سيقودها اليهود في فلسطين، والتي يتعيّن على العرب إما القبول بها أو مغادرتها، ستؤسَّس على «المساواة المدنية والسياسية الكاملة في الحقوق لجميع المواطنين، من دون تمييز على أساس العرق أو الدين». نظرت هذه الرؤية إلى إسرائيل كمنارة للمنطقة والعالم، يعيش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون بوئام.

اليوم تتصوّر خطة ترامب ـــ كوشنر مجدداً دولة يقودها اليهود يعيش من فيها بوئام، لأنه لن يسمح «لصراع أجدادهم باختطاف مستقبل أطفالهم». رفضُ كوشنر للماضي، وفق إدواردز ، يُعتبر جزءاً من مشكلة أكبر سببها عودة الأبوية إلى خريطة طريق الإدارة الأميركية. ترتكز رؤيته على الاعتقاد بأن زيادة سيطرة إسرائيل على المنطقة إلى جانب المساعدات الإنمائية الخارجية، ستؤدي إلى عصر جديد من التحضّر الفلسطيني. على هذا النحو تعود بنا خطة سلام ترامب - كوشنر إلى عصر الإمبريالية المستنيرة المزعومة التي سادت صفحات «فورين أفيرز».

اللاجئون الفلسطينيون... ضحايا ترامب وكوشنر و"صفقة القرن"

لم يكن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، بتاريخ 31 آب/أغسطس 2018م إلّا الخطوة الأولى على طريق تصفية قضية اللاجئين والضغط عليهم تمهيداً لـ"صفقة القرن" المنتظرة، التي بدأت تتشكل معالمها مؤخراً، خاصةً مع ورشة البحرين الاقتصادية.

5,545,540 ملايين لاجئ فلسطيني هو فقط العدد "المسجل" لدى الأونروا من أصل 25.9 مليون لاجئ من مختلف الجنسيات في العالم. ومن الصعب التكهن بالعدد الإجمالي لهم الذي قد يصل بحسب بعض التقديرات إلى 9 ملايين مع وجود الكثير من اللاجئين الفلسطينيين غير المسجلين.

لكن مصطلح "المعاناة" هو أقل ما يمكن به وصف وضعهم المعيشي والإنساني بحيث تؤكد وكالة "الأونروا" رغم كل مساعداتها بأن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المخيمات الفلسطينية "تتصف عموماً بالفقر وبالكثافة السكانية وبظروف الحياة المكبلة وبالبنية التحتية غير الملائمة، كالشوارع والصرف الصحي" خاصة في كل من غزة والضفة الغربية مع استمرار العدوان الإسرائيلي.

قرار قطع التمويل لم يكن مفاجئاً بعد أن تمّت محاربة المنظمة لفترة طويلة خاصة من قبل سفيرة الولايات المتحدة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي التي لطالما شككت بإحصاءات الأونروا لعدد اللاجئين الفلسطينيين.Alqads2019.6.25

أي أنّ رقم الـ 5 مليون ونصف لاجئ لم يقنع هايلي ومعها جاريد كوشنر مستشار ترامب وصهره اللذين كانا من أكبر الداعمين لقرار وقف تمويل شريان الحياة الوحيد للاجئين.

في إحدى خطاباتها بعد أيامٍ من وقف تمويل المنظمة اعتبرت هايلي أنّ "الأونروا لا تخدم الفلسطينيين.. إنها ذراع سياسي يدعي أنه يخدم الفلسطينيين". ورغم محاربتها للمنظمة ورفضها القاطع لحق الفلسطينيين بالعودة إلى بلدهم وأراضيهم، لطالما حاولت هيلي في استغلال واضح لمنصبها في الأمم المتحدة أن تظهر تضامنها مع اللاجئين الفلسطينيين، وهو ما ظهر في عدد من التغريدات على حسابها الرسمي على تويتر.

متباهية بإنسانيتها نشرت هايلي تغريدة لزيارتها للاجئات فلسطينيات في إحدى مخيمات الأونروا: "أتيحت لنا الفرصة للتحدث مع الفتيات والنساء عن حياتهن وآمالهن وأحلامهن!". سريعاً تهافتت عليها التعليقات المنتقدة والغاضبة؛ كتبت إحداهن: "عمل جيد قطع التمويل عن أحلامهن وآمالهن!!".

وسبق لمجلة "فورين بوليسي" الأميركية أن نشرت في آب/أغسطس 2018م رسائل بريد إلكتروني مسربة توضح كيف ضغط جاريد كوشنر على الإدارة الأميركية لإنهاء قضية اللاجئين من خلال التخلص من وكالة الأونروا.

قال صهر الرئيس الأميركي في بريد أرسله إلى كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية عند الساعة 7:50 من صباح يوم 11 كانون الثاني/يناير 2018 "من المهم للغاية بذل جهد صادق ومخلص لتعطيل الأونروا".

تبريراً لقطع التمويل زعمت إدارة ترامب بأن استمرار عمل المنظمة يديم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالإضافة إلى تكرار الحديث عن سيناريو مبالغتها في تحديد أعداد اللاجئين الفلسطينيين، وبالتالي التخفيف من "أعباء مالية ضخمة" تتحملها بلاده من خلال تمويل المنظمة.

بتاريخ 21 أيار/مايو 2019م أصدرت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى تقريرها السنوي الصحي عن عام 2018م مؤكدةً فيه استمرار توفير الرعاية الصحية الأولية في المخيمات الفلسطينية في كل من غزة والضفة الغربية والأردن ولبنان وسوريا دون انقطاع رغم مواجهتها تحديات مالية غير مسبوقة كان هدفها تهديد عملية تقديم خدماتها لأكثر من 5 مليون لاجئ فلسطيني.

61 مخيماً فلسطينياً في 4 دول عربية تحتوي رغم صغر مساحتها على أكثر من 5.4 مليون لاجئ، يحاول الرئيس الأميركي بما أطلق عليه "صفقة القرن" تحديد مصيرهم الذي لا يزال مجهولاً حتى الآن، ولكن سيكون "التوطين" ختامه في حال مرّت الصفقة بأمان تأميناً للمصالح الإسرائيلية وبما يضمن تصفية القضية الفلسطينية ومعه حلم الملايين في العودة إلى أرضهم وبما يفرض على الدول المستضيفة للاجئين - خاصة لبنان أعباءً ضخمة ستحاول الولايات المتحدة تعويضها بمساعدات من الصعب أن تنجح في معالجة نتائج التوطين السلبية.

بالإضافة إلى ذلك إنّ عرقلة تمويل الأونروا كان وسيلة ضغط واضحة على القيادة الفلسطينية لفرض شروط كثيرة خلال المفاوضات حول "السلام" المفترض و"صفقة القرن". لذلك قد تكون محاولة ترامب وصهره تفكيك المنظمة ودعوتهما الصريحة لعدم اعتبار اللاجئين الفلسطينيين كـ"لاجئين" بعد اليوم، جزءاً من خطة مرسومة تجعل القضية الفلسطينية مجرد "ماضٍ" وتنهي أزمة اللاجئين بمأساة أكبر.

ما بعد التطبيع: المصير المشترك!
خلافات العرب، وشخصنة مصالحهم وفق هوى الحكام، والانصياع شبه المطلق للمؤثر الخارجي خوفاً على الأنظمة، من أهم مداميك الأمن القومي الإسرائيلي. إسرائيل بذاتها، كياناً ومقومات، عاجزة عن مواجهة إمكانات العرب وقدراتهم، لكن سياسات الأنظمة مكّنتها من ترسيخ نفسها في المنطقة، بل وأيضاً التطلع إلى ما وراءها. إذا كانت أوضاع العرب المذكورة قد أتاحت للاحتلال أن ينشئ دولته على أرض فلسطين، وسهّلت له لاحقاً استدامتها، فإن الأوضاع العربية الراهنة وصلت إلى الحدّ الذي باتت معه الأنظمة تقف بالدور كي تحظى بالرضى الإسرائيلي، وهو واقع يتجاوز التطبيع إلى ما يليه بأشواط: المصير المشترك.

موقع إسرائيل لدى الأنظمة العربية وتحديداً الخليجية شرحه رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، في مقابلة متلفزة قبل أعوام («سي أن أن» 21/01/2016) أشار فيها إلى أن دول «الاعتدال العربي» لا تنظر إلى إسرائيل على أنها دولة عدوة بل حليف وشريك. يلفت نتنياهو، في المقابلة نفسها إلى أنه التقى عدداً من المسؤولين في الاتحاد الأوروبي وطلب منهم أن يظهروا لإسرائيل الفهم نفسه الذي يظهره لها «جيرانها العرب»: «أن يتعاملوا مع إسرائيل والفلسطينيين كما يتعامل معها جيرانها العرب». بعد شهرين من تلك المقابلة تحدث نتنياهو في الكنيست («معاريف» 16/03/2016) قائلاً: «أعتقد أن دولاً عربية تدرك أن الشراكة مع إسرائيل فرصة تدفع الفلسطينيين في نهاية المطاف إلى موقف واقعي تجاه تسوية ممكنة معنا. انفتاح العالم العربي على إسرائيل يساعدنا في يوم ما على التوصل إلى تسوية حقيقية مع جيراننا الفلسطينيين».

«الحل الواقعي» تبدأ اليوم رسمياً في المنامة فعاليات الدفع به عبر تدشين الشق الاقتصادي من «صفقة القرن» الأميركية التي هي النتيجة الطبيعية لـ«الشراكة» الإسرائيلية ـــ العربية، وتعبير عاكس لمتانتها وإن على حساب القضية الفلسطينية نفسها. في الخلفية من المفيد الإشارة إلى أن رؤيتين تجاذبتا إسرائيل تاريخياً في شأن حلّ القضية الفلسطينية بما يتوافق ومصالح الكيان وإمكاناته. الأولى تشدد على مفهوم «التنازل» عن جزء من الأراضي المحتلة للفلسطينيين بما يوفر لإسرائيل لاحقاً شرعية إقليمية ودولية تسهّل انضمامها إلى محيطها وترسخ وجودها مقابل رؤية أخرى تتطلع إلى عدم التنازل عن الأرض مع تعميق الاستيطان فيها على أن يصار إلى إيجاد حل ما للوجود الفلسطيني عبر حكم ذاتي «تُطلق عليه تسمية الإمبراطورية الفلسطينية لا الدولة الفلسطينية فقط»، كما كان ينقل عن أرئيل شارون آنذاك.

هذا التنازع حسم مآله المتغير الإقليمي و«اندفاع» الدول العربية «المعتدلة» نحو إسرائيل فكانت النتيجة بروز تيار يجلّي أقصى التطرف: الإبقاء على القدر الأكبر من الأراضي المحتلة تحت السيادة الإسرائيلية. وهي الرؤية التي سادت لدى اليمين الإسرائيلي وأدار الأخير من خلالها المفاوضات مع الجانب الفلسطيني من دون التوصل إلى نتائج. ومع تزايد تراكض الدول العربية باتجاه إسرائيل في السنوات القليلة الماضية ووجود إدارة أميركية تنافس اليمين الإسرائيلي على تصفية القضية، توجهت الحسابات الإسرائيلية نحو رؤية كانت خيالية في السابق، ويتبنّاها نتنياهو وتنص على الآتي: حلّ القضية الفلسطينية لا يأتي بالمفاوضات مع السلطة بل بالتطبيع مع «الاعتدال العربي» الذي يفتح يدوره الطريق أمام الحل مع الفلسطينيين. بمعنى آخر: قلب المعادلة التاريخية التي بُني عليها منطق التسوية فبدلاً من أن يكون الحل مع الفلسطينيين مدخلاً للتطبيع مع العرب يكون التطبيع مع العرب مدخلاً للحل. لكن أي حل فلسطيني؟ هذا ما يسعى إليه العدو حالياً إلى جانب الأميركيين وبمعونة العرب في المنامة.

بالطبع عملت إسرائيل على «تسليك» هذا الواقع تباعاً، عبر دفع الدول الخليجية إلى تظهير التطبيع، في موازاة النفخ في نار الفتنة مع الجانب الإيراني، لإيجاد عداوة بديلة تدفع الأنظمة العربية إلى التراخي إزاء الشروط الشكلية التي كانت تمنع الدخول في التطبيع الكامل فكان لها ما أرادت: باتت القضية الفلسطينية في أدنى سلم اهتمامات هذه الأنظمة في موازاة تحول مقاومة الاحتلال إلى جريمة تستدعي الملاحقة بتهمة «العمالة لإيران» التي تحمل راية المقاومة في حين أن التعامل مع الاحتلال والتنظير للتطبيع معه حسنة تضع الداعي إليها في خانة الاعتدال والتوافق مع مصالح الأنظمة وحكامها.

على هذه الخلفية بات التطبيع واقعاً قائماً لا ينكره معظم حكام الخليج وإن كان الخلاف لا يزال قائماً نسبياً على ضرورة تظهيره بالكامل كما ترى إسرائيل، أو تأجيل التظهير إلى أجلٍ ما كما يرى الحكام الخليجيون. وهو ما يفسر طفرة التقارير العبرية التي تتحدث عن العلاقات بين الجانبين فيما شبه الصمت قائم لدى الحكام العرب مع كثير من الاستثناءات بطبيعة الحال التي بدأت تتزايد على نحو واسع في الآونة الأخيرة إلى الحدّ الذي يشير إلى أن الخلاف على تظهير التطبيع من عدمه بدأ بالتلاشي. لذلك تراجع استحضار أنباء الزيارات المتبادلة والاتفاقات من تحت الطاولة ومن فوقها كما صور المصافحة والعناق والقبلات لتأكيد وجود العلاقات التي لم تعد محلاً للمجادلة بل في الأساس لم تعد محلاً للنكران حتى في الشكل لدى الجانبين.

«صفقة القرن» التي تبدأ فعالياتها الاقتصادية اليوم في المنامة ما كانت لتكون أو ليُتخيّل أن تكون في أذهان أيّ من منظري الصهيونية! نعم كانت محلّ تنظير لدى أولئك الذين قبلوا بفكرة التفاوض على نية التملص من التسوية لاحقاً. لكن أن تصل هذه الرؤية فعلاً إلى مستوى التطبيق العملي فقد كان ذلك مجرد خيال بحت. الفضل في ولادته يعود إلى الحكام العرب أنفسهم لا إلى «شطارة» إسرائيلية. الاحتلال تلقى من جهته الهدية التي وفرتها الأنظمة له وهو لن يتباخل على نفسه برفضها. تصفية القضية الفلسطينية التي كان يتخيلها الصهاينة سابقاً في الأحلام باتت مسعى عربياً أولاً ومحل قبول إسرائيلي ثانياً وعلى هذا المبنى يجب أن تُحدّد التموضعات.

المزيد في هذا القسم:

المزيد من: الأخبار العربية والعالمية