المرصاد نت - متابعات
التحالفات الاستراتيجية بين روسيا وتركيا تُظلّل بتشعّباتها مشهد الشمال السوري، فالتغيّر الواضح في الديناميكيات السياسية والعسكرية للأطراف الفاعِلة والمؤثّرة في المشهد السوري، تُنبئ بأن الخلاف الروسي التركي قد اتّخذ مساراً ناظِماً لتطوّرات الوضع الميداني في الشمال السوري، فالتصادُم السياسي لجهة إدارة الصراع في سوريا، وتجلّيات البُعد العسكري في أيّ تفاهم روسي تركي، يشي بالدخول مباشرة في معادلات جديدة تتجاوز في أبعادها مُخرجات أستانا وسوتشي، بَيْدَ أن التعقيدات التي حاولت تركيا هندَسة أبجدياتها، قد أدخلتها في مأزقٍ جيوستراتيجي مع روسيا، وفي المقابل، هناك رغبة سورية بإخراج ملف الشمال السوري كاملاً من عُهدة المُراهنات الإقليمية والدولية، فضلاً عن منع ظهور حالات الاختناق السياسي والعسكري التي تلوّح بها تركيا والولايات المتحدة لجهة الكرد وورقتهم الضاغِطة على دمشق، وبخلاف العناوين الكُبرى التي أسَّست لجملةٍ من التفاهُمات على مدار الأشهر المنصرمة، يبدو أن دمشق ومن خلفها موسكو وطهران، قد أسّسوا معادلات سياسية وعسكرية بأُطرٍ تحمل ردوداً قاسية، خاصة أن التسويف الأميركي وكذا المُماطلة التركية في تنفيذ تعهّداتها، قد أوصل دمشق وموسكو وطهران إلى مرحلة طيّ صفحة التفاهُمات السياسية في أستانا وسوتشي، والبدء بصفحة فرض الوقائع العسكرية الناظِمة لأيّ تفاهم سياسي، وبالتالي وضمن هذا التوقيت السياسي، فإنه لا يمكن الفصل بين التحرّكات العسكرية السورية في ريفيّ حماه الشمالي وإدلب الجنوبي، وبين جُملة المُتغيّرات السياسية على مستوى الملف السوري، حيث أن هذه المُتغيّرات شكّلت دافعاً سورياً للغوص في غمار التجاذبات وتفكيك التحالفات، لاسيما تلك المُعادية للدولة السورية، وبلورة حل سياسي يُناسب تطلّعات دمشق، خاصة أن عنوان المنطقة الآمِنة المُزمَع انشاؤها أميركياً وتركياً، يُهدّد المُنجزات السورية على الصعيدين السياسي والعسكري، وعليه اتخذ القرار بصيغتين عسكرية وسياسية للوصول إلى الهدف الذي سيتمّ من خلاله تثبيت المكاسب السورية، عبر تحالفات تُهندسها دمشق.
لا شك بأن خارطة العمليات العسكرية التي فرضها الجيش السوري، قد أسَّست لتفاهُماتٍ وتسوياتٍ في مشهد الشمال السوري، هي تفاهمات وتسويات تفرض معها معادلات عسكرية ستُنتج حلولاً سياسية، كما أن جميع القوى الإقليمية والدولية الفاعِلة والمؤثّرة في الشأن السوري، تُدرِك بأن المِفصل الذي سيُغيّر التوازنات الإقليمية والدولية، وسيُنشئ معادلات جديدة تكون الدولة السورية عرَّابتها، هو إدلب. وبالتالي فإن معركة إدلب وما بعدها، كما تحرير حلب وما بعده، حيث أن تحرير إدلب وعودتها إلى الدولة السورية، سيؤسّس لمرحلةٍ جديدةٍ في التعاطي السياسي والعسكري حيال ملف شرق الفرات، وسيكون محور أعداء سوريا في حالٍ من التخبّط والتقهقر، مع البحث والسعي وراء معادلات سياسية تجنباً للسيناريو السوري الناظِم لكافة التحوّلات على الصعيدين السياسي والعسكري، من هنا وضمن هذا الواقع، فرضت الدولة السورية رؤيتها الاستراتيجية لملفيّ إدلب وشرق الفرات، مع الأخذ بعين الاعتبار أيّ سيناريو أميركي تركي قد يُعرقل السيناريو السوري، لكن وبعد مراكمة البيانات السياسية والعسكرية التي هندَستها الدولة السورية وجيشها، ستكون دمشق أكثر تحرّراً من الضغوط وقدرة على الحركة وفرض الوقائع والمُعطيات، وهذا ما يُترجِم الصمت التركي حيال مشهد العمليات العسكرية السورية في ريفيّ حماه وإدلب، ولا يمكن إطلاقاً ترجمة الصمت التركي اتفاقاً أو تفاهماً روسياً تركياً، بل على العكس، فالصمت التركي هو ترجمة للعجز عن الإحاطة بمفاهيم التطوّرات التي فرضتها دمشق وحلفاؤها، كما أن تركيا قد استنفذت قُدرتها على المناورة السياسية والالتفاف على أيّ تفاهم سياسي مع روسيا بتوجيهاتٍ أميركية، كما تبدو روسيا وإيران قد حسمتا خياراتهما في هذا الملف، ووجهتا رؤاهما الاستراتيجية للمواجهات الفاصلة، ومن ثم الاستحواذ على أوراق قوّة ميدانية تتم إعادة تفعيلها سياسياً.
من الواضح أن الظروف السياسية والعسكرية المواكبة للعمليات العسكرية في ريفيّ حماه وإدلب، تتجاوز في جُزئيّاتها معادلات سوتشي، حيث أن تطبيق بنود الاتفاق الروسي التركي لم تعد تقتصر على تسيير الدوريات الروسية التركية، أو فتح الطرق الدولية، أو سحب الأسلحة الثقيلة من أيدي الفصائل الإرهابية، وإنما تسعى دمشق وحلفاؤها إلى تأمين عمق استراتيجي يكون مُنطلقاً لأية توجّهات عسكرية مقبلة، خاصة جُزئية شرق الفرات، فالمُعطيات والرسائل الأميركية التركية تشي صراحة بأن الهدف الاستراتيجي المُراد تحقيقه أميركياً وتركياً يصبّ مباشرة في بوتقة تقسيم سوريا، واقتطاع أجزاء منها عبر تسميات سياسية، لا سيما أن ما يُشاع عن تسوية الخلافات بين واشنطن وأنقرة حيال المنطقة الآمِنة، أو أية تفاهمات تُمرّر من تحت الطاولة، تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشك بأن خصوم سوريا وروسيا وإيران، يعملون على صوغ معادلة قوامها تفكيك ما تمّ إنجازه سورياً، ومحاولة بناء مناطق عسكرية بعناوين إنسانية يحتمون خلفها، بُغية تحقيق مكاسب سياسية على رأسها وفي مقدمها قَضْم مناطق حيوية من الجغرافية السورية، فضلاً عن الرهان المُعتمد على إطالة أمد الحرب على سوريا، عبر مُشاغبات مُفتعلة سياسية وعسكرية، من هنا جاءت تأكيدات الارتباط العضوي بين إدلب وشرق الفرات، لجهة النوايا والخُطط الأميركية التركية، فالتعقيدات بشقّيها السياسي والعسكري لا زالت تُفرض على سوريا وحلفائها ترتيبات عسكرية لأوراق الشمال السوري، لتغدو قوّة ما سيتم تحقيقه على بناء معادلة ستفرض نمطاً في طريقة التعاطي السياسي مع المُنجزات السورية في إدلب.
من خلال استعراض ما سبق، بات واضحاً أن معركة إدلب وتجليّاتها الإقليمية والدولية، تفرض تأثيراً سياسياً ضمن الهوامش العسكرية التي يُهندسها الجيش السوري، مع منع أية محاولة للفصائل الإرهابية وداعميها من التقاط أنفاسهم أو تجميع قواهم، والعبَث مُجدَّداً بأية مُنجزات بُغية كَسْب نقاط قوّة سياسية، وعليه ستكون دمشق عرَّابة لجُملةٍ واسعةٍ من الحلول وصوغ التفاهمات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن محور أعداء سوريا يعتاش على خلق التناقضات والتعقيدات، وصوغ المصالح المتضارِبة واللعب سياسياً عبر مناورات سياسية باتت مكشوفة للدولة السورية وحلفائها، لكن مع ذلك، ستبقى دمشق وحدها قادرة على فكّ طلاسم إدلب، والدخول إليها منتصِرة.
إدلب بين موسكو وواشنطن ومفتاحها بيد إردوغان
لم يتوقع كثيرون للرئيسين بوتين وإردوغان أن يعودا إلى "غرامهما" التقليدي بعد أزمة خان شيخون وحصار نقطة المراقبة التركية في مورك. فقد نجح إردوغان في كسب ود، بل وحتى دعم بوتين له، في مخططه المعروف لحماية عشرات الآلاف من مختلف المجموعات المسلحة في إدلب ومحيطها، هذا إذا تجاهلنا عدداً مماثلاً من مسلحي المجموعات الموالية لتركيا من جرابلس إلى عفرين.
وكالات الأنباء وزعت مشاهد من الزيارة التي قام بها إردوغان قبل أيام إلى معرض الطائرات الروسي، وحواراته "اللطيفة" مع الرئيس بوتين، الذي بدا مرتاحاً لمباحثاته مع نظيره التركي.
وأفضت المعلومات إلى بروز مساع لدى إردوغان لشراء طائرات سوخوي 57 ومروحيات وطائرات خاصة، هذا إلى جانب التعاون التركي-الروسي في تكنولوجيا الفضاء، والعمل على زيادة حجم التبادل التجاري من 25 مليار دولار إلى 100 مليار، وهي مواضيع مهمة بالنسبة إلى موسكو، التي نجحت في خلق المشاكل لأميركا في علاقاتها مع الحليف الأهم تركيا.
وأشارت بعض الأوساط إلى أن مجالات التعاون الجديدة تمثّل "رشى" دفع بها إردوغان للرئيس بوتين كي يبقى على "الحياد" في حربه "العقائدية والشخصية" مع الرئيس الأسد، التي يبدو أنها لن تنتهي إلا بهزيمة أحد الطرفين. يفسر ذلك موافقة بوتين على إقامة نقاط مراقبة تركية جديدة في محيط إدلب لمنع أو تأخير سقوط معرة النعمان وسراقب وجسر الشغور، وذلك بهدف الضغط على جبهة النصرة كي تعلن ولاءها لأنقرة، على أن تبقى إدلب في مهب الرياح الروسية - الأميركية، التي نجح إردوغان في استغلالها دائماً لتحقيق مآربه، وهو ما يفسر تمثيلية التظاهرات ضد تركيا في باب الهوى، التي جاءت لجذب انتباه العالم إلى "الكارثة الإنسانية في سوريا"!
وقد حمل استقبال إردوغان للسفير الأميركي الجديد في أنقرة ديفيد ساترفيلد فور عودته من موسكو دلالة في توقيته الزمني، وعُدّ مؤشراً مهماً على التزام أنقرة بتحالفها مع واشنطن مهما فعلت الأخيرة ضدها، الأمر الذي يفسر أيضاً اتصال إردوغان بالرئيس الأميركي دونالد ترامب ليبحث معه "زيادة حجم التبادل التجاري إلى مئة مليار دولار، والعمل المشترك لمواجهة هجمات النظام ضد إدلب".
وتطرق الطرفان من دون أي شك إلى تفاصيل التعاون التركي- الأميركي شرق الفرات، التي كان إردوغان قد شرحها قبل ذلك للرئيس بوتين، ليؤكدا معاً ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا السياسية والجغرافية!
ويبقى ذلك "كلاماً عاطفياً" ما دامت المنطقة الآمنة تنطوي على اعتراف تركي بالاحتلال الأميركي لشرق الفرات، كما تنطوي على قبول تحالف واشنطن مع وحدات حماية الشعب الكردية وقوات سوريا الديمقراطية، فيما تعمل الدولتان معاً على تقسيم سوريا وفق المخططات الأميركية، المدعومة بريطانياً وفرنسياً وإسرائيلياً، في وقت تسعى فيه أميركا وإسرائيل لمنع فصائل الحشد الشعبي المدعومة إيرانياً من بسط سيطرتها على غرب الفرات المجاور للشمال السوري.
الجميع يعرف أن الحضور العسكري التركي للعام الثالث غرب الفرات يسهم هو أيضاً في ترسيخ التقسيم كلما تأخر الحل في إدلب. واستمرار الذرائع التركية في ترسيخ هذا الحضور سيؤدي إلى فشل أعمال اللجنة الدستورية، التي ستجد أمامها عشرات العقبات ما دام معظم ممثلي المعارضة في اللجنة هم من أتباع إردوغان، المدعوم في هذه الحالة أميركياً. ويمثل إردوغان منافساً حقيقياً للرئيس بشار الأسد، الذي سيجد نفسه في وضع معقّد، إن لم يكن صعباً، مع استمرار حسابات المصالح الروسية في العلاقة مع أنقرة.
فتركيا تستورد 60% من استهلاكها للغاز من روسيا، وتشتري منها صواريخ أس 400، كما تنفذ الشركات التركية ما قيمته ٣٠ مليار دولار من مشاريع البناء. وتستورد روسيا منها نحو 20 نوعاً من المنتجات الزراعية، ويحتل السيّاح الروس المرتبة الأولى (نحو 6 ملايين) من بين نحو 40 مليون سائح يزورون تركيا سنوياً. وبات واضحاً أن حسابات الخسارة والربح بين الطرفين لم تعد تعني الكثير، ما دام الخاسر الأكبر هو سوريا مع استمرار الوضع الحالي على ما هو عليه في إدلب، التي عاد إردوغان ليمسك مفتاحها بفضل بوتين، الذي حقق المزيد من المكاسب بعد كل مناورة من مناوراته.
هذه المناورات يردّ إردوغان عليها في كل مرة بتكتيكات جديدة تخدم حسابات الطرفين، ما دامت مقومات المناورة السورية ضعيفة، وفق تفكير إردوغان. وهذا ما استغله وسيستغله الرئيس التركي حتى النهاية، ما دام الشريك الثالث إيران في وضع لا يسمح له الآن بكثير من التكتيك. وهذا ما سنراه في القمة الثلاثية بعد أسبوعين، والحديث فيها عن إدلب لن يخرج عن سياقه التقليدي بحسب المزاجَين التركي والروسي. فعسى أن يفاجئنا بوتين بعكس ذلك، هذا إن لم يكن الجميع في هذا السيناريو ممثلين بارعين، والقول الحسم سيكون لدمشق!.
قراءة : أمجد إسماعيل الآغا ‘ حسني محلي
المزيد في هذا القسم:
- ميركل في عمان ثم بيروت: بحثٌ في أوضاع اللاجئين المرصاد نت - متابعات تجري المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل التي وصلت ليل أمس إلى الأردن محادثات مع الملك الأردني عبد الله الثاني في عمان ستتناول الأوضاع في ال...
- مقتل 6 جنود أتراك في انفجار جنوب شرق تركيا متابعات : قتل خمسة جنود وفرد من أفراد القوات الخاصة التركية بهجوم بالمتفجراتشنه حزب العمال الكردستاني في مدينة نصيبين القريبة من الحدود مع سوريا. وذكرت ...
- معهد "كارنغي" للدراسات: بوتين ينوي مواجهة الهيمنة الغربية بحصانة ترامب المرصاد نت - متابعات كتب باحث أمريكي في تحليل له نشره معهد "كارنغي" للدراسات الاستراتيجية أن الرئيس الروسي ينوي و"بحصانة من ترامب" وضع موسكو على الجبهة الأمام...
- العلاقات الإسرائيلية السعودية .. حان الوقت للأعتراف بالحقيقة المرصاد نت - متابعات يري معلق الشؤون العربية في صحيفة "معاريف" الإسرائيلية أنه حان الوقت للاعتراف بالفم الملآن بأن إسرائيل والسعودية تجريان اتصالات في ما بينه...
- قمة ترامب - كيم مرهونة بـ«تعهّد بعدم الاعتداء» المرصاد نت - متابعات في رسالته الأخيرة إلى زعيم كوريا الشمالية والخطاب الذي تَلا نشرها ترَك الرئيس الأميركي الباب مفتوحاً أمام احتمال عقد «قمة سنغافورة&...
- أردوغان وإسرائيل... خصومة موقتة وشراكة دائمة المرصاد نت - متابعات تصدّى رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان للاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة كلامياً. وتصدى أيضاً كلامياً لمواجهة نقل ال...
- النظام السعودي يسعي للحصول على أسلحة نووية المرصاد نت - متابعات تناقلت وسائل الإعلام الإقليمية والدولية في الآونة الأخيرة أخباراً وتقارير مفادها بأن النظام السعودي يسعى إلى امتلاك الأسلحة النووية لمواج...
- التهديد المتنامي لليمين المتطرف في أوروبا.. إلى أين؟ المرصاد نت - متابعات بدأت الأصوات اليمينية المتطرفة في أوروبا تتعالى مع صعود اليمين المتطرف، والذي يحرض على اتخاذ إجراءات مناهضة للإسلام والمسلمين. وبمحاذاة ص...
- واشنطن بوست: بن سلمان أعاد بلاده الى العصور الوسطى والمظلمة المرصاد نت - متابعات أكدت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أعاد بلاده إلى العصور الوسطى والمظلمة من خلال ما تشهده البلاد من تسل...
- ارتفاع مستوى التأهب الأمني في فرنسا بعد هجوم ستراسبورغ ! المرصاد نت - متابعات كشفت وسائل إعلام فرنسية اليوم تفاصيل جديدة عن منفّذ هجوم إطلاق النار في ستراسبورغ، الذي أسفر مساء أمس عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 12 آخرين...