المرصاد نت - أسماء عواد
الإضراب العام الذي يشلّ المدارس في الأردن يعدّ الأول من نوعه منذ عقود. وجد الأردنيون أنفسهم أمام أحداث متسارعة ارتبطت بتطورات تحرّك المعلمين للمطالبة بعلاوة 50% مستحقة منذ أعوام ستُكلّف الدولة نحو 150 مليون دولار سنوياً. هذا التحرك لم يكن فجائياً، بل نتيجة لقاءات كثيرة لم تسفر عن نتيجة. قاد تلك اللقاءات نقيب المعلمين الراحل أحمد الحجايا الذي توفّي بحادث سير في 30 آب/ أغسطس الماضي. كما سبق لمجلس النقابة أن أعلن خطوته الأولى وهي الاعتصام أمام رئاسة الوزراء. وفعلاً لم تؤجّل «المعلمين» أيّاً من تحركاتها بل نفذت اعتصامها على رغم الإغلاق الكامل للمنافذ المؤدية إلى منطقة الاعتصام والذي رافقه احتكاك أمني أسفر عن توقيف عدد من المعلمين أُفرج عنهم لاحقاً.
الصدام خرج من دائرته الثنائية بين النقابة والوزارة ولاسيما أن المزاج الشعبي وجد في ثبات المعلمين أنموذجاً لتحرّك ناجح في وجه السياسات الحكومية وسط الحالة الاقتصادية الصعبة، والحنق على الحكومات كافة منذ انطلاق الحراك بداية 2011م ووصولاً إلى آخر فصوله المتمثل في التظاهرات الواسعة العام الماضي وما أعقبها من تغيير حكومي جاء بوزير التربية والتعليم السابق رئيساً للوزراء أي عمر الرزاز. وترى «نقابة المعلمين» أن الحكومة تسبّبت في الأزمة جراء مماطلتها وتجاهلها حقوق المعلمين ومطالبهم. لكن مع ذلك، استمرت اللقاءات التي سعت فيها الدولة إلى ربط العلاوة المستحقة بالتقييم المهني ما رأت فيه النقابة مهرباً للوزارة من التزاماتها.
استمرّ الكر والفر إلى أن جاء إعلان الإضراب في السابع من الشهر الماضي. آنذاك راهنت الحكومة على فشله، لكن المفاجأة كانت نجاحه حتى كتابة التقرير. ومن ثمّ، لم تسفر اللقاءات الثنائية عن أي انفراج، مع تزايد الهجوم على النقابة وتحريض أولياء الأمور على المعلّمين. وأخيراً بادرت الحكومة إلى عرض علاوة تبدأ بـ8% وتنتهي بـ15% من أصل الـ50% المطلوبة، لكن خطوتها هذه جوبهت أيضاً بالرفض واستمرار الإضراب، فيما خلصت مطالب المعلمين إلى اثنين: الأول الاعتذار الرسمي والثاني علاوة 50%.
أحد الكوادر في النقابة والذي فضّل عدم ذكر اسمه قال إن «المدرّسين أصبحوا ناضجين كفاية ليتعاملوا مع أي دعاية سلبية تجاه مطالبهم أو حقوقهم» مضيفاً أنهم خاضوا على مدار السنوات السابقة أكثر من إضراب واعتصام، ولذلك يعرفون أن أساليب شيطنتهم لن تنفع خاصة أنهم يلمسون تعاطفاً شعبياً كبيراً. وأكد أن إضرابهم «مشروع ودستوري» ولذلك هم يلتفّون خلف مجلس نقابتهم «بعد أن أثبت صلابته في وجه تعنت الحكومة... الحكومة تدرك أهمية هذا الإضراب وحجم التأثير الذي سيتركه على مستوى الوطن، ولذلك تعمل بكل طاقتها على كسره لكنها تعتمد أدوات ثبت فشلها». وإذا تراجع المعلمون ولم ينجح الإضراب فإن هذا «كارثي على الجميع بمن فيهم الحكومة... أظن أننا تجاوزنا مسألة الفشل».
لكن مع رفع دعوى على «نقابة المعلمين» ومدير مديرية التربية والتعليم والبحث العلمي (أي الوزارة)، زُجّ بالسلطة القضائية في الأزمة وهو ما يوسع دائرة المواجهة مع النقابة. يقول المحامي عمر العطعوط إن الحكومة تحاول خلط القانوني بالسياسي حتى تَرْجح الكفة للدولة مؤكداً «مشروعية الإضراب كوسيلة تعبير مصونة دستورياً». ويستدرك العطعوط: «من ناحية قانونية عدم تنفيذ قرار المحكمة الإدارية (بفكّ الإضراب) لا يعني حُكماً سجن من لا ينفذ، بل يحتاج دعوى جديدة أمام المحكمة الجزائية موضوعها عدم تنفيذ حكم قضائي سنداً إلى أحكام قانون العقوبات».
لذلك وبينما أعلنت «الإدارية» حكمها بوقف الإضراب واعتبرته الحكومة نافذاً حالاً يرى المحامي أن الأمر «موضع خلاف» لأن هناك تناقضاً في نصوص قانون القضاء الإداري بين المادة 28 والفقرة الثانية من المادة 34/ب لأن الأخيرة لا تجيز تنفيذ حكم محكمة أولى إلا إذا اكتسب الدرجة القطعية أي استنفدت طرق الطعن. وفعلاً سارعت الحكومة أمس إلى الطعن في قرار «الإدارية» وقف الإضراب على رغم أنها قبلته وأذعنت له وعمّمت على مديرياتها تطبيقه وذلك بهدف «سحب البساط من النقابة وإنهاء مدة 15 يوماً الممنوحة للنقابة كي تطعن بدورها في قرار المحكمة أمام الإدارية العليا ما يعني انتقال النزاع الآن إلى مرحلة القضايا الجزائية، حيث من الممكن أن يبدأ التلويح أيضاً بحلّ النقابة»، يزيد العطعوط.
على الصعيد النقابي تباينت ردود الفعل بين الوقوف إلى جانب المعلمين وبين مواقف متسقة مع الدولة. لكن كان الموقف الأبرز لـ«نقابة المهندسين» التي ساندت نظيرتها. يقول عضو «المهندسين» ساهر سلوادي إن المطلوب أن تعترف الحكومة بخطئها في إدارة أزمة المعلمين ذات البعد الوطني وأن تعتذر وتدفع لهم علاوة 50% المقرّة من سنوات. بدوره يشير فاخر دعاس وهو منسق «الحملة الوطنية لحقوق الطلبة» (ذبحتونا) إلى أن الحملة «تقف مع المطالب المحقة للمعلمين لأن المطالبة بتطوير العملية التعليمية لا تنفصل عن مطالبهم... رفع رواتبهم سينعكس إيجاباً على هذه العملية وسينتهي بتعزيز ثقة المعلم بنفسه وإعطاء وقت أكبر للمهنة ولطلبته» مضيفاً أن ذلك «سيجعل أيضاً مهنة التعليم مطلوبة وعليها إقبال أكبر ما سيعزز جودة التعليم الرسمي وكفاءة المدرسين».
ويرى دعاس أن تطورات الإضراب جعلته قضية وطنية أكثر منها مطلبية، خاصة أن «التعنت الحكومي وسياسة كسر العظم أعادا المواطنين إلى مربع الحراك الشعبي المطالِب بإصلاح الاقتصاد والتخلص من إملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين وهذا ما يفسر الالتفاف الشعبي إلى حدّ أن المواطنين يلتزمون توجيهات النقابة أكثر من الحكومة».
أسئلة كثيرة يفتحها إضراب المعلمين منها ما هو متعلق بالإنفاق الحكومي على التعليم الرسمي وتراجع جودته على حساب الخاص المكلف إضافة إلى ما يثار حول الهيئات غير الدستورية التي نبتت بشكل موازٍ للهيئات الحكومية وباتت ممرّاً شبه إجباري لمن يسعى إلى تطوير نفسه وحجز مقعد له في المجال التربوي والتعيينات والترفيعات المرتبطة بالتقييم. كذلك لا يمكن قراءة الإضراب بعيداً عن جوهره السياسي وإن لم يأخذ لوناً حزبياً إذ هو أقرب إلى مواجهة حقيقية مع نظام اقتصادي طحن الأردنيين على مدى سنوات. لكن يبقى الأمل ضعيفاً لأن أي حل لن يتحقق من دون موافقة «صندوق النقد» الذي غادرت بعثته المملكة قبل أيام، بعد زيارتها الدورية للاطلاع على العمل في خطة تحفيز النمو الخمسية والأخيرة بدأت آثارها العصيبة منذ إقرار قانون الضريبة العام ولذا لن يكون سهلاً زيادة النفقات الحكومية في ظلّ غياب النتائج المرضية في أرقام النمو وفق ما تم الاتفاق عليه مع الصندوق.
الاحتجاجات الاقتصادية والسياسة
أخيراً وصل إضراب المعلمين في الأردن إلى القضاء والمُلفِت للانتباه في المسألة أن الحكومة ليست طرفاً في الدعوة وهذا ما يروق لها في التعامُل مع مُعظم التحرّكات الاجتماعية التي تُطالب بتحسين ظروفها المعيشية؛ وهو أن تضع المجتمع في مواجهة الفئة المُحتجَّة من زاوية تعطيل مصالحه واحتياجاته؛ ومن ذلك اعتبار إضراب السائقين تعطيلاً للمواصلات العامة وحاجات المجتمع، واعتبار إضراب الأطباء تهديداً لحياة المواطنين – على الرغم من استقبالهم للحالات الطارِئة آنذاك - وأخيراً اعتبار إضراب المعلمين تعطيلاً لمصالح الطلبة والأهالي.
يدور النقاش للخروج من الأزمة في هذا الإطار التقني تضخيم حال التناقُض بين الفئة المُحتجَّة والمجتمع من جهةٍ أولى، وتقديم اقتراحات للبحث عن مصادر مُمكنة لتأمين 170 مليون دولار سنوياً تغطّي مطلب المعلمين من جهةٍ ثانية (من أين نأتي بالمال) والقلق من فتح شهيّة قطاعات اجتماعية أخرى للمُطالبة بتحسين ظروفها هي الأخرى من جهةٍ ثالثة.
استحوَذَ البحث عن مصدر الـ 170 مليون دولار على حصّة كبيرة من الجَدَل حول آليّة الخروج من الأزمة؛ طال هذا الجَدَل ميزانية الدفاع التي يحتلّ فيها الأردن المركز الثاني عشر عالمياً كنسبةٍ من الناتِج المحلي الإجمالي للدولة وأن هذا الإنفاق تضاعَف 3 مرات بعد توقيع اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني! الاعتماد على مزيدٍ من الضرائب، التي تشكِّل 66% من إيرادات الدولة حسب ميزانية 2019م يُعرِّض البلاد إلى هزّةٍ مُشابهةٍ للإضراب الشامل الذي شهده الأردن العام الماضي وهو أمر غير ممكن على المستوى المنظور.
إذن يبقى السؤال الأهم المطروح على الطاولة "من أين نأتي بالمال"؟ تبدو الإجابة عن السؤال غير مُمكِنة عبر الحلول التقنية المُبسَّطة وتقليب الأموال بين القطاعات المختلفة من خزينة تعاني إيرداتها تراجعاً حادّاً.
الإحصائيات المُرعِبة الصادِرة عن المؤسَّسة العامة للضمان الاجتماعي تُعطي تصوّراً واضِحاً عن الوضع الاقتصادي في الأردن 44.7% من العاملين الأردنيين يحصلون على أجورٍ أقل من 550 دولاراً شهرياً، و93% من العاملين يتقاضون راتباً أقل من 1400 دولار شهرياً. المُساعدات الخارجية في أدنى مستوياتها فبعد أن وصلت إلى 1.68 مليار دولار في موازنات (2011م و2014م بدايات "الربيع العربي" واشتداد الأزمة في سوريا) وصلت هذه المساعدات إلى 840 مليون دولار فقط في موازنة 2019م. أعداد كبيرة من العاملين في الخليج (السعودية والإمارات) تعود إلى البلاد، والحوالات الخارجية التي وصلت إلى حدود ال 5.6 مليارات بدأت تشحّ.
يبدو أن الأزمة بحاجةٍ إلى قراراتٍ سياسيةٍ شجاعة؛ على المستويين الداخلي والخارجي والتحالفات السياسية تتجاوز حلول التنقيب في الخزينة لتغطية مُطالبات القطاعات المُحتجَّة.
مع إدارة ظهر الخليج عن أزمات الأردن وملامح مصير الأردن في بنود صفقة القرن يبدو أن الباب أصبح مفتوحاً أمام المسؤولين الأردنيين للبحث في حلولٍ جديدة، مُخالِفة للنهج الاقتصادي الذي تبنَّته الدولة منذ نهاية الثمانينات وغريبة عن تاريخ السياسة الخارجية الأردنية وتقاليدها التي اعتادت عليها منذ تأسيسها:
لو قرَّرنا الإبقاء على ميزانية الدفاع على ما هي عليه، فيُمكن استثمارها وتوجيهها بشكلٍ مختلفٍ ومن ذلك إدماج الجيش في المشاريع التنموية في الداخل، ومن ذلك بناء الجسور والطرُق وتقديم الخدمات الطبية والتقنية لباقي مؤسَّسات الدولة، الأمر الذي يوفِّر الأموال التي تُدفَع للشركات العالمية.
مع وصول الاعتماد على الإيرادات الضريبية إلى سقفه الأعلى المُمكن، يصبح الانتقال إلى "الإنتاج" أمراً لا مفرّ منه ويبدأ ذلك في تأميم المؤسَّسات العامة التي تمَّت خصخصتها في برنامج الخصخصة الشامل في التسعينات، واستعادة كامل عمليات الإدارة والتشغيل فيها، لتأمين الاستفادة الكاملة من إيراداتها.
فتح باب الشراكات الجديدة ومن ذلك الخيار الإيراني التي تضيف مهارات جديدة للعاملين الأردنيين وتُخفِّف التكاليف المُبَالغ فيها بسبب التعاقُد مع الشركات الأوروبية والأميركية. قد يساعد ذلك في تأمين البنية التحتية اللازمة لاستيعاب العاملين العائدين من الخليج.
ليس المهم الآن التفكير في كيفيّة فكّ إضراب المعلمين، ولا القلق من شهيّة القطاعات الأخرى التي تنتظر نجاح المعلمين كي تبدأ؛ الأهم الآن هو التفكير في حلٍ سياسي واقعي، يوقِف تغوّل مُثلَّث الرُعب الذي أصبح حقيقة؛ عودة العاملين في الخليج وشحّ الحوالات، وتجفيف المُساعدات الخارجية، ووصول الإيرادات الضريبية إلى حدّها الأقصى !
المزيد في هذا القسم:
- مجلس العلاقات الخارجية الامريكي: الرياض ليست شريكا مناسبا لواشنطن المرصاد نت - متابعات أكد مجلس العلاقات الخارجية الامريكي أن ان "الوقت المفيد" في العلاقات بين أمريكا السعودية قد ولى وانتهى مشدداً على أن الرياض ليست شريكا من...
- استجواب جديد في الكويت: انقسام المعارضة يمنع انفراط الحكومة؟ المرصاد نت - متابعات انتهت جلسة استجواب وزيرة الشؤون الاجتماعية في الكويت هند الصبيح إلى تقدم 10 نواب بطلب لطرح الثقة فيها يُفترض أن يناقش أواخر الشهر الجاري....
- محاكمة تونسي واجه ماكرون... بقضية جورج عبدالله المرصاد نت - متابعات عُرِض أمس التونسي حميد المزوغي أمام وكيل الجمهوريّة التونسية (النائب العام) وذلك عقب توقيفه أثناء مشاركته في احتجاج مفاجئ يؤيد قضية المنا...
- أسباب نكسة إردوغان في الانتخابات المحلية: ليس بالاقتصاد وحده! المرصاد نت - أحمد طرابيش بعد أيام على صدور نتائج الانتخابات المحلية في تركيا ورغم عدم نهائية هذه النتائج تكشّف المزيد من الأسباب والمعطيات حول الواقع الجد...
- النفط يواصل الهبوط: ضغوط ترامب تؤلم الرياض ! المرصاد نت - متابعات واصل إنتاج السعودية القياسي في ظل زيادة المخزونات الأميركية الضغط على أسعار النفط التي تراجعت أمس إلى نحو 60 دولاراً فيما يترقب المتعاملو...
- واشنطن أرادت «70% من رؤوس بيونغ يانغ النووية»! المرصاد نت - متابعات كشفت تسريبات نقلها موقع «Vox» الإعلامي الأميركي أن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو اقترح على كوريا الشمالية خطة بشأن نزع س...
- علاقة السعودية مع الكيان الإسرائيلي علاقة مصالح أم علاقة مصير؟ المرصاد نت - الوقت تستغل السعودية الأحداث والوقائع التي تجري في المنطقة الإسلامية والعربية وخاصةً أحداث الشرق الأوسط لتمضي في مشروعها بشكل مكثف وبعيد عن ال...
- بيونغ يانغ تتعهد بتعزيز قدراتها النووية وتحذر واشنطن من استفزازاتها المرصاد نت - متابعات تعهدت كوريا الشمالية بتعزيز قدراتها النووية رغم العقوبات المفروضة عليها مؤكدة أنها لن تتخلى أبدا عن ردعها النووي. وأبلغ وزير الخارجية ...
- المونيتور البريطاني : الكل ضاق بسياسات السعودية ذرعا المرصاد نت - متابعات عينت المغرب في 14 أكتوبر الجاري سفيرا جديدا لها في إيران للمرة الأولى بعد إغلاق تمثيليتها الديبلوماسيّة في طهران لمدة سبع سنوات على اثر ا...
- العراق ما بعد داعش: احتلال أمريكي جديد؟ المرصاد نت - متابعات كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن مرحلة ما بعد داعش في العراق ومع انطلاق معركة غرب الموصل طفت على السطح جُملة من المُتغيّرات السياسية والع...