هل يغير كورونا من سلوكياتنا

المرصاد

 

بحث وإعداد إخلاص القرشيEkhlas

 

توطئة

في الوقت الذي يمضي فيه المجتمع الدولي في ترسيخ قيم العولمة و إلإنفتاح ونظام الحوكمة العالمية، شهد ذلك الإنفتاح تراجعاً في تلك العلاقات عندما كشف إنتشار وباء كورونا المستجد في دورة ظهوره الأولى خللاً في تطبيق إستراتيجيات نظام الحوكمة حينما إتخذت كل دولة على حدة إجراءاتها الإحترازية الخاصة بها وأنشغلت بشأنها الداخلي في محاولات لتقويض الخسائر المادية والبشرية في دولها ، وسارعت بإغلاق حدودها ومطاراتها. وفي تنافس محموم لهزيمة الفيروس الشرس تقوم منفردة معظم مختبراتها بتجارب علمية لإيجاد لقاح ضد فيروس كوفيد 19 ، متجاوزة إستراتيجية التنسيق والتعاون الدولي لوضع برامج مشتركة من أجل مواجهة الوباء. الذي بلغت فيه الخسائر البشرية نسباً مخيفة كان سببها الإرباك الذي أحدثه الفيروس وعدم معرفة التعامل معه مما دفع بمنظمة الصحة العالمية في تاريخ 11 مارس2020 بإعلانه جائحة عالمية.

وتصاحب الجولة الثانية للجائحة بحلول فصل الشتاء هواجس القلق والتوجس من تضاعف الخسائر الإقتصادية والبشرية برغم أن العالم بات يدرك الأن على أقل تقدير كيف يتعامل مع هذه الجائحة والتقليل من مخاطر الإصابة بها.

وعادت الحياة تدب في شرايين شوارع المدن الكبرى بعدما كانت خاوية من البشر، وبدأت الحكومات بإلغاء سياسة إغلاق حدودها الدولية والإكتفاء بإغلاق المناطق الداخلية في مدنها التي تظهر الإحصائيات إرتفاع في نسب الوفيات والإصابات على سبيل المثال إعلان إغلاق مدينتي ويلز وإسكتلندا أمام بقية المدن الأخرى البريطانية والعالم .

وضع هذا الوباء دول العالم كافة أمام تحديات إقتصادية وتجارية وصحية وإجتماعية غاية في الصعوبة، وأبرز قصوراً وعيوباً في النُظم الرأسمالية وسياساتها الإستراتيجية الداخلية تجاه بعض تلك القطاعات . مما يستدعي ضرورة أن تقوم حكومات الدول بمراجعة تلك السياسات بعد إنتهاء الوباء من العالم .

وفي محاولات للتخفيف من نتائج ذلك القصور مع مضاعفة التحذيرات والإحترازات أعادت الحكومات تشغيل عملية الإنتاج والعمل والتي كانت قد توقفت في المرحلة الأولى لظهور الفيروس وتسببت في خسائر إقتصادية وخيمة بلغت المليارات . وقامت الحكومات الغربية بالإعلان عن مجموعات من حزم المساعدات المالية لدعم الموظفين ومتوسطي الدخل الذين فقدوا وظائفهم بسبب الإغلاق، إضافة الى دعم المؤسسات الصغيرة التي تعرضت أرباحها لخسائر فادحة كنتيجة متوقعة لذلك الإغلاق . وقامت بتوسيع نظم الرعاية الإجتماعية والمنح المالية للأسر والأفراد الفقراء من مواطنيها طوال فترة الجائحة.

ظهور وإنتشار الوباء والإجراءات الإحترازية التي واكبت التغيرات في سلوك وأعراض المرض أثرت على كثير من المفاهيم والممارسات التقليدية والقيم المجتمعية ، أتناول في هذا البحث أهم الجوانب التي تتصل بها.

الفعاليات الثقافية والإجتماعية:

برزت التكنولوجيا { الإنترنت} في هذه الجائحة تتسيد الموقف في عملية التواصل والتقارب الإجتماعي فلم تختفِ الفعاليات الثقافية والندوات والمؤتمرات والمناسبات الشخصية كحفلات الزواج وأعياد الميلاد عن المشهد في حضور الكورونا الذي تسبب في تغيير كبير في مظاهر الحياة الإجتماعية التي إعتاد عليها الناس. فبرزت هذه التكنولوجيا كلاعب رئيسي في عملية التواصل والإستمرارية تلك وأنها ضرورة من ضرورياتها وخاصة وقت الأزمات. وحولت هذه التكنولوجيا مفهوم الزيارات التقليدية لمقابلة الطبيب الى عيادات عبر الإنترنت أو الهاتف ليتم من خلالها التشخيص وتقرير العلاج.

وفي الجانب التعليمي:

دفع الوباء بالقائمين على المؤسسات التعليمية بكافة مراحلها التي أغلقت أبوابها أمام طلابها مدة قاربت السبعة أشهرالى التفكير بتغيير النمط التقليدي المكاني في العملية التعليمية الى الإستفادة من هذه التقنية للخروج بالتعليم من النمطية الى التعليم عن بٌعد ومـن ثم إشراك أولياء الأمور في الإشراف والمساعدة في عملية تدريس الأبناء خاصة صغار السن، مما ساهم في عملية التقارب مع الأبناء و التعرف على مشاكلهم التى غفل عنها الأباء في وقت من الأوقات بسبب إنشغالهم بالعمل.

الجانب الصحي:

منذ شهر إبريل من هذا العام 2020 وجد العالم نفسه في سباق غير متعادل مع عدو خفي غيرعادي وغير متوقع لايرحم ولا يفرق بين أحد و أخر، يضرب ضربته أين شاء وقتما شاء. لذلك شغل الجانب الصحي الإهتمام الأكبر لدي دول العالم بسبب التفشي والإنتشار السريع للوباء بين الناس وقدرته المخيفة على الحصد اليومي للأرواح ، برغم كل الإجراءات والإحترازات وإرشادات التوعية الصحية وإعلان حالة الطوارئ التي إتخذتها الحكومات بما فيها بعض الدول العربية التي تتمتع بإستقرار وأمن سياسيين نسبياٌ ، بدأً بتجهيز المستشفيات وإنشاء مراكز إضافية وتوفير أجهزة التنفس ومضاعفة تصنيعها لإستيعاب العدد اليومي المتزايد من المصابين .

ظهورالفيروس المفاجئ وعدم المعرفة بكيفية التعامل معه أظهرعجز السياسات الإستراتيجية في الجانب الصحي التي خلت من خطط الإستجابة السريعة لمواجهة الأزمات الصحية والأوبئة المعدية حين إندلاعها . هذه المحنة وضعت الحكومات على محك خطير مما يجب عليها مراجعة سياساتها الإستراتيجية وخططها المستقبلية بعد ألتمكن من إنتاج لقاح القضاء على الفيروس.

من جانب أخر واكب ظهور الوباء نشوء مفاهيم وقيم أمن جديدة لدى المواطنين لربما تتبناها الأجيال القادمة لتصبح أسلوب حياتهم في المستقبل بما فيها الأيام التي تخلو من الأوبئة على سبيل المثال إرتداء الأقنعة الواقية ، إختفاء المصافحة بالأيدي الذي إعتاد عليه الناس ، والإبتعاد عن التقارب الجسدي أثناء التجمعات وإستبدالها بالتباعد الإجتماعي أو { SOCIAL DISTANCE } أو الإلتقاء بالأصدقاء والأقارب من خلال مجموعات صغيرة { CREATING BUBBLES} وهي بعض من العبارات التي إستحدثتها الحكومات لتجنب إنتقال العدوى } .

القرارات الإحترازية تستفز ناشطي الحقوق والحريات :

برغم خطورة هذا الوباء وما يشكله من تهديد لحياة البشر إلا أن بعض الحكومات كبريطانيا تواجه حالياً تحدياً إضافياً من قبل بعض منظمات الحريات والحقوق المدنية وبعض المواطنين والناشطين بسبب القيود المفروضة على حريات السفر والتظاهرات السلمية و التجمعات واللقاءات حتى الأسرية منها وتقليص عدد الأفراد في المناسبات الخاصة كحفلات الزواج وغيرها وإجبار بعض المرافق على الإغلاق مما تسبب في خسائر مادية لأصحابها والعاملين فيها ، تعتبر من وجهة نظر المنظمات والناشطين أن تلك القرارات تتنافى مع حقوق الحريات الشخصية والتعبير أنها تسعى الى تقويضها . مما يفرض سؤالاٌ الى أي مدى يمكن أن يلتزم الناس بالقرارات الإحترازية إذا طالت مدة الجائحة ؟؟ وهل سيكون له تأثير سلبي على مكانة حزب المحافظين في أي إنتخابات بريطانية قادمة؟؟

الأنظمة العربية والوضع القائم :

من المؤكد أن الوباء لم يستثن بلداننا العربية حيث مؤشرات الرعاية الصحية التي تتراوح بين متواضعة في بعض منها ومعدومة في البعض الأخر ونسبة معدلات الوفيات تعاني من إرتفاع متفاوت مرتبطاُ بالوضع الإقتصادي لكل بلد على حِدة .

منذ الوهلة الاولى لإنتشار الفيروس التزمت بعض الدول العربية بمبدأ الشفافية في التعامل مع مواطنيها في الإعلان عن الوباء في مدنها ووجود إصابات ووفيات بسببه، وأتخذت إجراءات فورية صارمة في الجانب الصحي أسوة بإلإجراءات والتدابير والتعبئة الإجتماعية التي إتخذتها الدول الغربية للمحافظة على مواطنيها للحد من إنتشار الفيروس وإنتقال    العدوى ، مما وضع مزيداً من الضغوط على إقتصاديات تلك البلدان أذكر منهاعلى سبيل المثال مصر والاردن ودول المغرب العربي.

أما في دول الخليج العربي والسعودية بسبب إقتصادياتها المستقرة والمرتفعة نجحت في إجراءاتها الأحترازية منذ بداية إعلان الوباء التي يمكن وصفها بالتدابير الإستباقية وسخرت كل إمكانات دولها الإقتصادية والأمنية والصحية إضافة إالى إالتزامها بمبدأ الشفافية مع مواطنيها في مواجهة الفيروس، ولجأت الى سنِ قوانين صارمة لمعاقبة المخالفين لإرشادات وإجراءات مكافحة العدوى .وإغلاق أجوائها وتجهيز المستلزمات الضرورية مجاناُ كالأقنعة الواقية والمعقمات ومراكز الفحص المجاني .

 

أما في البلدان كاليمن و سوريا التي يعيش على أطرافها مليون ونصف نازح سوري تعاني من أوضاع سياسية وأمنية خطيرة غير مستقرة نتيجة الحروب والصراعات الدائرة وإقتصاديات هشة غاية في الصعوبة وضعف وإنعدام انظمة الحماية الإجتماعية والصحية .    في اليمن على سبيل المثال لم تلتزم القوى الحاكمة التي تسيطر على البلاد بمبدأ الشفافية في الإعتراف بوجود الوباء في بداية ظهوره ولم تتخذ أي إجراءات إحترازية للحد من إنتشار الفيروس مما جعل التعامل مع الفيروس وكذلك تسجيل عدد الوفيات من الصعوبات الكبرى .

في هذه الأوضاع المتردية يعيش أكثر من عشرين مليون يمني في فقر مدقع بدون رواتب ولا ماء نظيف للشرب ولا مساكن ولا مستشفيات ولا أماكن للصرف الصحي ، لقد دمرت الحرب البنية التحتية كاملة في اليمن .و فقد غالبية الناس منازلهم وفقد الاطفال مدارسهم التي تدمرت بسبب الحرب وتحولوا الى نازحين فارين من مناطق الصراع وأصبحوا معتمدين على مساعدات المنظمات الدولية في الغذاء والدواء والطعام . في ظل تلك الأوضاع إنتشرت كافة أنواع الأوبئة التي كانت قد إنتهت من العالم كالكوليرا والحمى الشوكية والتيفوئيد وغيرها من الأمراض.

وحين غاب دور الدولة أو تأخر برزت المبادرات الشعبية من أفراد المجتمع المدني والقطاع الخاص في عملية التوعية والإلتزام بالمحاذير وتوفيىر ما أمكنها من الأدوية وإسطوانات الأكسجين لمنع إنتقال الفيروس، وتطوع الشباب في العمل في المراكز الصحية لمساعدة المصابين بالمرض والذي حتى وقت متاخر لم يتمكن من تحديد ما إذا كانت الإصايات والوفيات بسبب الكورونا أو بسبب أمراض أخرى لعدم وجود أجهزة التشخيص المناسبة. والتي تم توفيرها بعد ذلك بواسطة تبرعات القطاع الخاص من رجال الاعمال.

مقارنة السلوك إعتمدت فيها على المتابعة والإستنتاج فيما يخص اليمن:

1 في الوقت الذي أصبح فيه الجميع يدرك الخطر الكامن الذي يشكله الوباء على حياة الإنسان ومقارنة بما حدث في دول العالم الغربي في بداية ظهور الوباء ، أُفرغت الأسواق و محلات السوبر ماركت من كافة محتوياتها من الأطعمة بسبب تهافت الناس عليها بشكل غير عادي بينما ظلت معدلات الإنفاق والإستهلاك كما هي في اليمن من قبل ظهور الجائحة حيث لم تختفي المواد الغذائية من على أرفف البقالات والاسواق.                         

2 لم يلتزم جميع اليمنيين بإرتداء أقنعة الوجة الواقية والتباعد الإجتماعي في الأسواق ولم يلتزموا بالحظر المنزلي وظلوا يمارسون حياتهم الطبيعية وتجمعاتهم الإعتيادية كما لو كان لا يوجد الفيروس ، على عكس ما حدث ولايزال في أوروبا وبعض البلاد العربية. حيث دفعت المخاوف ببعض الناس من إنتقال العدوي الى إتخاذ مظاهر عدائية تجاه بعضهم وبرزت بشكل ملفت في بريطانيا من قبل بعض البيض تجاه الجاليات المتواجدة .

3 لم يِظهرمعظم اليمنيين وخاصة العامة من الناس أية مخاوف أو قلق من مخاطر الوباء بإستثناء قلة ويعتقدون أن الوباء لايوجد من الأساس ، بينما أشارت دراسة صادرة عن مركز المعلومات ودعم القرار التابع لمجلس الوزراء المصري حول قياس أثر فيروس كورونا على حياة الأسر المصرية، إلى تراجُع مخاوف الأُسَر المصرية بشأن تأثيرات فيروس كورونا على أوضاعها، حيث توصلت إلى أن 98% من الأُسَر المصرية على دراية تامة بأعراض كورونا، وأن أكثر من 45% من الأُسَر لديها توقعات متفائلة بشأن استقرار دخلها الشهري؛ حيث ترى أن أزمة كورونا قد انتهت بالفعل.

     4 عادت المخاوف تبرزعند الأوروبيين وبعض الدول العربية من تداعيات الوباء بسبب التحذيرات التي تبثها الحكومات في خطابها السياسي للناس بينما لم نعد نسمع من المسؤولين و الحكام في بلداننا وخاصة في اليمن أخباراً حول المرحلة الثانية من الفيروس وخطط الإستجابة وأليات التصدي وكأن الأمر بات مفروعاُ منه.

   5   سيُحدث فيروس كورونا لا محالة تغييرات في بعض السلوك والقيم التي أعتاد الناس عليها وسيعمل على رفع مستوى الوعي لديهم بالإلتزام بعادات الأمن والسلامة المجتمعية.          

 

 

في ختام مقالي هذا أود التأكيد على أن تقييم التعاطي السياسي للحكومات ومدي تجاوبها في الأزمات الغير متوقعة كأزمة وباء كورونا سيؤدي للحفاظ على السلم والأمن المجتمعي كما سيبني جسور الثقة بينها وبين شعوبها ويحفز على إنتفاء الصراعات ويدفع الى الترابط والتعاون بين الدولة ومواطنيها.

إندلاع فيروس كورونا المستجد كان بمثابة جرس إنذار بأن على الحكومات مراجعة برامجها الإصلاحية لجبر الضرر الذي تعرض له إقتصادها جراء هذه الازمة ، ويجب أن تشمل الإستراتيجيات الإصلاحية خطط تأهب مستقبلية لمجابهة الأزمات العالمية والأوبئة ، والدفع بعمليات تنموية يشارك فيها المرأة والرجل على حد سواء تصب في مصلحة الأوطان .  

أخيراُ أؤكد أن التنمية لاتتحقق إلا بالإنفتاح على العالم والترابط والتنسيق وتبادل الخبرات بين الدول وبعضها .

إنتهى

28/10/2020

 

المزيد في هذا القسم:

  • حين يصحو الشعب ! المرصاد نت أعذر الظلم و حمّلنا الملامانحن أرضعناه في المهد احترامانحن دلّلناه طفلا في الصباوحملناه إلى العرش غلاماوبنينا بدمانا عرشهفانثنى يهدمنا حين تسامىوغر... المرصاد الثقافي
  • سيّدُ الفجر عُمر ! المرصاد نت ... وصارع الموت ما من مفرّ تسربل الموت بالأزقةِ والسّترات الواقية بالصّراخِ بالصّداعِ والليالي المستيقظة وهرب الرّدى جزعاً من الرّدى على يدِ... المرصاد الثقافي