عودة المبادرة الفرنسية: طهران تفتح ذراعيها للاستدارة الإماراتية !

المرصاد نت - متابعات

زخر مشهد «المصافحة» الإيرانية الإماراتية أمس بالكثير من المؤشرات ولو أتى بطابع «تقني» بين ضباط الدولتين الجارتين أي استقبال قائد قوات حرس الحدود الإيراني، قاسم رضائي وفداً Tahran2019.7.31إماراتياً يرأسه قائد خفر السواحل محمد علي مصلح الأحبابي إلى إيران لعقد اجتماع خفر السواحل السادس، بعد توقف دام سنوات لهذه القناة، تحديداً منذ 2013 تاريخ الاجتماع الخامس. الأبرز خلف هذا المشهد أنّ إيران تظهر للمرة الأولى تجاوباً عملياً مع المبادرة الإماراتية التي بدأت خلف الستار قبل أسابيع بهدف النأي بالنفس عن الاشتباك الإقليمي حين أوفدت مندوبين كما أكد مستشار المرشد، حسين دهقان، للحديث عن «السلام». وعلى الضفة الإماراتية توحي الزيارة التي تأتي تتويجاً لنجاح الاتصالات وراء الكواليس بحرص أبو ظبي على المضي قدماً في عملية تحييد نفسها عن الصراع، التي ظهرت جلية في تغيير استراتيجيتها في اليمن والشروع بانسحاب عسكري واسع.

وبحسب وكالة الأنباء الإيرانية، أكد الجانبان «تعزيز العلاقات الدبلوماسية وتأمين منطقة الخليج وبحر عمان». ونقلت الوكالة عن رضائي قوله في معرض الترحيب بالوفد الإماراتي «إن الجيرة في الإسلام تعني التعاون والتراحم». وشدد على ضرورة عدم السماح «لسائر الدول بأن تمسّ بأمننا الإقليمي»، داعياً إلى «تعزيز التعاون في مجال إدارة الحدود المشتركة وتأمين هذه المنطقة». وقال: «نستطيع من خلال النهوض بمستوى التعاون الثنائي أن نقيم ملتقيين سنوياً في طهران وأبو ظبي، فضلاً عن لقاءات ميدانية في المناطق الحدودية بين قادة البلدين لاحتواء المشاكل الحدودية والعمل على حلها». الزائر الإماراتي شدّد، من جانبه، على ضرورة «الرقي بمستوى العلاقات الحدودية ومواصلة الإجراءات المشتركة والتنسيق المستدام بهدف تأمين التجارة وسلامة الملاحة البحرية» وفق ما نقلت وكالة الأنباء الإيرانية.

تظهير اللقاء الأمني بين الجارين، في حدّ ذاته، ومن ثم طابع التصريحات، أمران يشيان بعملية اختبار لتفاهمات جرت بعيداً من الإعلام، ويراد منها أن تكون فاتحة لتطور العلاقات، وهو ما سيرخي بظلاله على أكثر من ملف، أهمها اليمن عبر استكمال الانسحاب الإماراتي أو على الأقل تثبيت الاستراتيجية الجديدة. تطور الموقف الإماراتي يمنح الإيرانيين شعوراً بنجاح ضغوطهم الأخيرة في المنطقة، من جهة، وبإحداث اختراق من جهة ثانية في جبهة «الباءات الأربعة» كما يسميها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أي الأسماء الأربعة التي تتضمن حرف الباء وكانت تضغط باتجاه المواجهة: محمد بن زايد، محمد بن سلمان، بنيامين نتنياهو، وجون بولتون.

وأراد الإيرانيون ـ على ما يبدو ـ أن يبدأ تظهير التفاهمات الجديدة من بوابة أمن الحدود والملاحة، على وقع التصعيد مع بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة بشأن ملف أمن مضيق هرمز والمساعي لإنشاء تحالفات أو إرسال قوات، وهو يعزز الموقف الإيراني إزاء هذه القضية. في المحصلة، تبقى السعودية، بعد لقاء أمس، الطرف الفاعل الوحيد في الإقليم المتمسك بقطع الجسور والتزام المنحى الأميركي من التصعيد والمواجهة، وهو ما يطرح علامات استفهام جديدة حول إمكانية أن ينعكس الموقف الإماراتي تحولاً إيجابياً في الرياض.

غربياً وفي وقت لم يحصل فيه الطلب الأميركي الرسمي من ألمانيا بالانضمام إلى فرنسا وبريطانيا في المساعدة على تأمين مضيق هرمز على موافقة برلين عادت المؤشرات الإيجابية على خط طهران - أوروبا من خلال المحادثة الهاتفية «الطويلة» كما وصفها الإليزيه أمس، والرابعة خلال شهرين بين الرئيسين الإيراني حسن روحاني والفرنسي إيمانويل ماكرون. وأفادت الرئاسة الفرنسية بأن ماكرون من حيث يقضي إجازته جنوب البلاد يُجري اتصالات بالرئيسين الإيراني والأميركي في سبيل «بذل كل الجهود الممكنة لضمان موافقة جميع الأطراف المعنية على هدنة والدخول في مفاوضات» وهو ما يشي بإعادة تفعيل المبادرة التي أطلقها ماكرون بالتنسيق مع باقي أطراف الاتفاق النووي.

المواجهة في الخليج والتوازنات الدولية المستجدة
كغيرها من الأزمات الدولية تكشف المواجهة الدائرة في الخليج بين إيران من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى التحول المستمر في موازين القوى لغير مصلحة القوى الغربية المسيطرة على صعيد عالمي منذ قرون عديدة. مسار تراجع الهيمنة الغربية بدأ منذ عقود طويلة لكنه يتسارع في السنوات الماضية خاصة في منطقتنا. تعاملت الإدارات الأميركية المتعاقبة مع المنطقة، منذ نهاية الثنائية القطبية في تسعينيات القرن الماضي على وجه الخصوص على أنها فضاء مستباح تستطيع غزوه واحتلاله و«إعادة صياغته» كما تشاء مع حليفتها العضوية إسرائيل. المقاومات الضارية التي أبدتها شعوب المنطقة وقلّة من دولها أظهرت أن ما سُمّي «البطن الرخو للنظام الدولي» في تقارير «البنتاغون» أقلّ رخاوة مما ظنّ مُعِدّوها، وأن مصائر بلدانها لن تُقرَّر في واشنطن وتل أبيب ولندن وغيرها من عواصم الغرب.

يأتي الحزم الإيراني في مواجهة «الضغوط القصوى» الأميركية، التي هي حرب اقتصادية وسياسية وإعلامية وسيبرانية ونفسية تمهيداً ربما لمواجهة عسكرية مباشرة، والمبادرة إلى «الاحتكاك» مع إسقاط طائرة التجسس الأميركية المسيّرة واحتجاز ناقلة نفط بريطانية رداً على احتجاز ناقلة إيرانية، ليشكلا مؤشراً جديداً على المدى الذي وصل إليه التغير في التوازنات الدولية. فتصدّي إيران للاستفزازات/ الاختبارات الأميركية ــــ البريطانية هو سابقة بمعنى ما في علاقات بلدان الجنوب مع القوى الغربية المسيطرة منذ نهاية الثنائية القطبية. قبل ذلك التاريخ، خيضت حروب تحرر وطني مجيدة ومُنيت القوى الغربية المسيطرة بهزائم عديدة في فيتنام والجزائر وكوبا والعديد من البلدان الأخرى. لكن انهيار الاتحاد السوفياتي وما تلاه من اختلال في التوازنات الدولية سمح للولايات المتحدة بشنّ سلسلة من الحروب العدوانية في منطقتنا وفي البلقان كانت آخرها الحرب على العراق عام 2003 التي كان شعارها «الصدم والترويع». لم يكن اختيار هذا الاسم للحرب اعتباطياً من قِبَل إدارة جورج بوش الابن فأحد أهدافها كان ترويع دول المنطقة وشعوبها لإخضاعها، وقد نجحت في تحقيقه مع بعض الأنظمة التي انساقت تماماً مع السياسة الأميركية من بعدها.

أطراف محور المقاومة واجهوا نتائج هذه الحرب والحروب التي تلتها ضد لبنان وغزة وسوريا ومنعوا المعتدين من الوصول إلى غاياتهم. غير أن دول المحور دعمت حركات المقاومة الشعبية المنضوية فيه للقيام بهذا الدور من دون أن تصطدم مباشرة بالولايات المتحدة. ما يجري اليوم في الخليج مختلف من هذه الزاوية: إيران تقف وجهاً لوجه في مقابل الولايات المتحدة، وهو أمر لم تفعله دولة أخرى من دول الجنوب منذ نهاية الثنائية القطبية ربما باستثناء كوريا الشمالية التي تمتلك أسلحة نووية وتتحدى في مواقفها وسلوكها أميركا، لكن من دون الصدام المباشر معها حتى الآن. هل كانت أي دولة من دول الجنوب أو حتى من دول العالم ستجرؤ على تحدي الولايات المتحدة بهذه الطريقة منذ عشر سنوات مثلاً؟ الجواب طبعاً بالسلب، بكل بساطة لأن الكثير من البلدان في تلك الفترة بما فيها روسيا والصين كانت لديها أسباب للقيام بذلك، لكنها أحجمت انطلاقاً من تقديرها لموازين القوى.

اختلفت الأوضاع اليوم وعاد «التنافس بين القوى العظمى» كما يقول الخبراء الاستراتيجيون الأميركيون نتيجة تراجع قوة واشنطن ونفوذها. وفي سياق ارتفاع حدة الصراع الأميركي ــــ الإيراني يظهر السجال الذي أثاره مسلسل «غاندو» التلفزيوني الإيراني حول شخصية وزير الخارجية محمد جواد ظريف وتقييم الدور الذي يؤديه في منصبه ما دفعه إلى كتابة رسالة لمرشد الجمهورية الإسلامية يعبر فيها عن رغبته في الاستقالة الاتجاه نحو المزيد من التشدد ضد واشنطن. «السياسة هي الناس» كما يقول المثل الأميركي المعروف. لا شك في أن اختيار ظريف كوزير للخارجية عندما كان باراك أوباما رئيساً لأميركا جاء ليعكس إرادة التوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني. الهجوم على ظريف الذي قد يكون مرتبطاً أيضاً باعتبارات داخلية يحمل في طياته رسالة واضحة إلى واشنطن مفادها أن زمن السعي الحثيث للتفاهم معها قد ولّى.

من ملف : توازنات الخليج: إيران تحتضن استدارة الإمارات - الأخبار

المزيد في هذا القسم:

المزيد من: الأخبار العربية والعالمية