الصين تُقارع الهيمنة الأميركية: نحن قوةٌ عسكرية أيضاً!

المرصاد نت - متابعات

شكّلت الذكرى السبعون لإعلان الجمهورية الشعبية الصينية علامةً فارقة لجهة استعراض قوة البلاد عسكرياً وقدرتها على مقارعة الهيمنة الأميركية. فالصين لم تعد تشبه ما كانت عليه في عام China Army2019.10.31949؛ فإلى جانب موقعها كثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم رسمت بكين ملامح المرحلة المقبلة في ظلّ تصاعد المواجهة مع الولايات المتحدة، تحت عناوين شتّى ليست الحرب التجارية إلا إحدى أدواتها. تضاف إليها استراتيجية احتواء أميركية نشِطة تسعى إلى تطويق منطقة آسيا - المحيط الهادئ بصواريخ متوسطة المدى. استراتيجيةٌ من شأنها أن تُطلق سباق تسلّح، وتؤجّج التوترات المتصاعدة أصلاً بين البلدين.

انطلاقاً من هنا استعرضت الصين قوتها بعرض عسكري هو الأكبر في تاريخ البلاد لمناسبة الذكرى السبعين لقيام الجمهورية الشعبية. ومن ساحة تيان إنمين حيث أعلن ماو تسي تونغ تأسيس الصين الشعبية في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1949م أطلّ الرئيس الصيني في خطاب ركّز فيه خصوصاً على «الوحدة»، في وقت تتصاعد فيه التوترات في كلّ من هونغ كونغ وتايوان، معلناً «مواصلة الكفاح في سبيل إعادة توحيد الوطن الأمّ توحيداً تاماً». وقال: «لا شيء يمكن أن يزعزع أسس أمّتنا العظيمة. لا شيء يمكن أن يمنع الأمة والشعب الصينيَّين من المُضي قدماً».
وعلى رغم تعهّده باحترام بكين لمبدأ «بلد واحد ونظامان» في هونغ كونغ دافع شي في الوقت ذاته عن الوحدة الوطنية إذ أكّد عشية الاحتفالات بالذكرى أن «الوحدة هي الحديد والصلب. الوحدة هي مصدر القوة». وعلى بعد نحو ألفي كيلومتر جنوباً، نُظمت احتجاجات في هونغ كونغ تخلّلتها أعمال شغب تزامناً مع الاحتفالات للتنديد بما يعتبره سكّان الجزيرة «تراجع الحريات» في منطقتهم. وإذ شدّد على أن «التوحيد الكامل للوطن الأم هو توجّه لا يمكن تجنّبه... ولا يمكن لأي جهة أو قوة منع حصوله» أشار إلى تعزيز التنمية السلمية للعلاقات مع تايوان و«الدفاع عن إعادة توحيد البر الرئيس بالكامل».

وبالعودة إلى العرض العسكري، فقد كشفت الصين عن أسلحة جديدة من صواريخ مدمّرة وقاذفات وطائرات مسيّرة فائقة السرعة أو خفيّة طوّرتها سعياً لتقليص الفارق التكنولوجي بينها وبين الولايات المتحدة. وفي هذا السياق تعمّدت بكين إظهار قوتها بكشفها عن آخر ما طوّرته من صواريخ بالستية عابرة للقارات فعرضت للمرة الأولى الصاروخ «دي إف 41» فائق القوة. صاروخٌ يمثّل عماد الردع النووي الصيني ويبلغ مداه 14 ألف كيلومتر ويمكنه نظرياً إصابة أيّ موقع في أميركا كما يمكن تحميله رؤوساً نووية عديدة يقدّر مراقبون عددها ما بين ثلاثة وعشرة. ومن أهم ميزات هذا الصاروخ أنه بالرغم من طوله البالغ عشرين متراً، فهو متحرّك ويمكن إخفاؤه في أي مكان من البلد خلافاً للجيل السابق من الصواريخ الباليستية النووية التي لا يمكن إطلاقها إلا من منصّات ثابتة.

وعكس العرض العسكري عملية تحديث الجيش الصيني التي أطلقها شي بهدف تطويره لبلوغ «المستوى العالمي» بحلول مئوية قيام الجمهورية الشعبية في عام 2049م وعرضت بكين كذلك، نسخة جديدة من قاذفاتها الاستراتيجية «إتش 6-إن» القادرة على حمل أسلحة ذرية إلى مدى أبعد من قبل. ومن أبرز ما تضمّنه العرض العسكري، الصاروخ الباليستي بحر - أرض «جي إل - 2» أو «الموجة العملاقة 2» وهو صاروخ يتم تحميله في غواصات ويمكنه إصابة منطقة ألاسكا وغرب الولايات المتحدة. وعلى صعيد الأسلحة التقليدية (غير الذرية)، كُشف عن صاروخ عابر للقارات يفوق سرعة الصوت يعرف باسم «دي إف 100» وهو قادر على شلّ حركة حاملات الطائرات.

وتضمّن العرض «نجماً» آخر هو الصاروخ «دي إف -17» القادر عند بلوغه ارتفاعاً معيناً على إطلاق «طائرة شراعية فائقة السرعة» هي في الحقيقة سلاح أشبه برأس طائرة حربية مصمّم على شكل سهم وقادر على التحرك بسرعة تقارب سبعة آلاف كيلومتر في الساعة.وقدرة هذا السلاح على التحرك بين الطبقات الجوية تجعل من الصعب التكهّن بمساره، ما يزيد من صعوبة اعتراضه.

وأبدت دائرة الأبحاث في الكونغرس الأميركي في تقرير صدر في منتصف أيلول/ سبتمبر مخاوف من أن تكون الولايات المتحدة متأخّرة عن الصين على صعيد هذه الطائرات الشراعية فائقة السرعة. وعرض الجيش الصيني أيضاً، طائرتين من دون طيار؛ أولاهما طائرة «دبليو زد - 8» أو «استطلاع 8» التي تفوق سرعة الصوت (حوالى أربعة آلاف كيلومتر في الساعة) ويمكنها جمع معلومات حول حاملات الطائرات قبل إطلاق صاروخ باليستي مضادّ للسفن. والثانية طائرة «جي جاي -11 » أو «هجوم 11» وهي طائرة من دون طيار خفية كبيرة الحجم بإمكانها حمل صواريخ أو رصد سفن أجنبية.

يقظة بكين تهزّ دعائم الهيمنة الغربية
«دعوا الصين تنام لأنها عندما ستستيقظ سيرتجف العالم بأسره». هذا القول منسوب إلى نابليون بونابرت من قِبَل عدد من المؤرّخين واستخدمه الآن بيرفيت الكاتب والسياسي الفرنسي عنواناً لكتابه الصادر عام 1973م والذي اعتبر فيه أنه على الرغم من المشكلات العديدة التي واجهها آنذاك هذا البلد - القارة، فإنه سيتحول إلى قطب دولي أساسي إذا نجح في دخول العصر التكنولوجي.

عقود من «الصعود السلمي» حدت بالبعض إلى الجزم بأن علاقات الصين مع العالم تقتصر على الأبعاد الاقتصادية والتجارية وبأن أولوياتها الداخلية مرتبطة بالتنمية وبالتطور العلمي والتكنولوجي وأنها تحرص على إبقاء أفضل الصلات مع الولايات المتحدة وتجنب استفزازها بأي شكل من الأشكال. لم يكن ذلك التوصيف بعيداً عن الواقع إلى أن أعلن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، «الاستدارة نحو آسيا» عنواناً لاستراتيجية احتواء الصين التي تبنّتها إدارته وتابعتها بتشدّد وتوتّر أكبر إدارة دونالد ترامب.

الرئيس شي جينبينغ أكد في خطابه في احتفالات الذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية أنه «ما من قوة يمكنها أن تهزّ دعائم أمتنا العظيمة. ما من قوة يمكنها أن تمنع الشعب الصيني والأمة الصينية من المضي قدماً». هذا الخطاب وما تلاه من عرض لأحدث ابتكارات التكنولوجيا العسكرية الصينية، خاصة في مجالَي الصواريخ العابرة للقارات والطائرات المسيّرة الأسرع من الصوت يشكّلان أقوى رسالة مُوجّهة إلى الولايات المتحدة من رئيس صيني منذ أيام الرئيس ماو. من يسعى «لهزّ دعائم الأمة الصينية» أيقظها وستهتزّ دعائم هيمنته على العالم نتيجة لذلك.

في دراسة صادرة عن «معهد الأبحاث الاستراتيجية» الفرنسي يرى الخبيران أنطوان بونداز وستيفان دولوري أن الاتحاد السوفياتي حتى في أوج قوته لم ينظم عرضاً عسكرياً يتضمن هذا العدد من المنظومات الباليستية الاستراتيجية. ويلحظ بونداز ودولوري أن جمهورية الصين الشعبية منذ تأسيسها أقامت 14 عرضاً عسكرياً، بينها 5 منذ وصول شي جينبينغ إلى السلطة. لا يمكن فصل تزايد هذه العروض العسكرية عن تصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة. إظهار مستوى التطور التكنولوجي والعسكري الذي بلغته الصين لقطاعات شعبها المختلفة وما يعنيه بالنسبة لقوة البلاد وقدرتها على الحفاظ على وحدتها وسيادتها ومصالحها هو بلا ريب أحد أهداف العرض لتعزيز الشعور الوطني والوحدة خلف القيادة السياسية، في ظرف تسعى فيه القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى تشجيع نزعات تقسيمية في الصين. ثورة هونغ كونغ الملوّنة والتي بات المشاركون فيها يرفعون الأعلام الأميركية ويطالبون بالانفصال إحدى الشواهد على الرعاية الأميركية للنزعة التقسيمية. الحملة الغربية حول اضطهاد السلطات الصينية لأقلية الإيغور المسلمة وتعيين ترامب لأميركية من أصل إيغوري كمسؤولة عن ملف الصين في مجلس الأمن القومي شاهد آخر.

التأكيد على التلاحم الداخلي في مواجهة هذه المخططات وعلى الصلة العضوية والاعتماد المتبادل بين «الحزب الشيوعي الصيني» الذي يضمّ 90 مليون عضو وجيش التحرير الشعبي جميعها أهداف هامّة بالنسبة للقيادة السياسية. لكن ما يتصدر أولوياتها حالياً هو التصدّي الفعّال للانتشار الأميركي العسكري والصاروخي في الجوار البري والبحري للصين. إبراز قدراتها الصاروخية المتعاظمة جزء لا يتجزّأ من عملية التصدي المذكورة خاصة تلك العابرة للقارات والتي يصل مداها إلى ما بين 12000 و14000 كم أي القادرة على الوصول إلى الأراضي الأميركية والأسرع من الصوت والتي تحمل رؤوساً نووية تصل إلى عشرة رؤوس مع صاروخ «دونغ فنغ 41».

صحيفة «ذي صن» الشعبية البريطانية أطلقت على الصاروخ المذكور تسمية «صاروخ يوم القيامة»، الذي يستطيع إصابة أهداف في الأراضي الأميركية بعد أقلّ من نصف ساعة على إطلاقه. وعلى الأرجح فإن ما تبتغيه القيادة الصينية من استعراض القوة الذي قامت به هو إثارة هلع كهذا في أوساط الرأي العام الأميركي والغربي لحمله على التفكير في النتائج المحتملة والمروّعة للسياسات المعادية للصين، وعلى معارضتها.

لقد أعمت «غطرسة القوة» صنّاع القرار الأميركيين ووسطاً واسعاً من النخب السياسية والعسكرية الذين اعتقدوا جميعاً أن بإمكان بلادهم اتباع استراتيجيات احتواء ضد روسيا والصين في الآن نفسه أضاف إليها ترامب بعد وصوله إلى السلطة سياسة الضغوط القصوى على إيران، والتي قد تتطور إلى حرب. أيقظت العدوانية الأميركية العملاق الصيني من أحلامه الوردية بالصعود السلمي وأعادته إلى حلبة الصراع الدولي مضطراً وللدفاع عن النفس. لن يشبه عالم الغد ما تصوّره مفكّروها وخبراؤها بتاتاً بعد هذه اليقظة.

المزيد في هذا القسم:

المزيد من: الأخبار العربية والعالمية