تتعامل النخب السياسية اليمنية، أحزاباً أو أفراداً، وعلى اختلاف انتماءاتها، سواء التي جرفتها الثورة، أو التي أعادت تدوير نفسها في مناصب جديدة، تتعامل مع بلادها كغنيمة، وبحسب الطبخة السياسية وشروطها؛ إذ مررت هذه النخب، في تاريخها الطويل والموحل، مشاريع تدميرية كثيرة لفكرة الوطن والمواطنة المتساوية. وربما أكثر هذه المشاريع كارثيةً، وطرافة أيضاً، في تاريخنا اليمني، قرار تقسيم الغنيمة اليمنية إلى ستة أقاليم، وإقامة دولة اتحادية على أنقاض أحلام اليمنيين، وصدمة مراقبين كثيرين.
جاء قرار التقسيم ارتجالياً، يتناسب مع خفة المرحلة الانتقالية التي شهدتها اليمن في أعقاب ثورة 2011، ومع مزاج النخب السياسية اليمنية المأزومة ذاتياً، والمرتهنة لماضي الفتوات والسلاطين وولاة الخليفة وجباة الأرض. ولم يستطع مؤتمر الحوار الوطني، على الرغم من الدعم الدولي، أن يجعل هذه النخب متخففة من نزعاتها الانتقامية، أو أن تكون على قدر من المسؤولية الأخلاقية والوطنية، في معالجة أزمات ثلاثة وثلاثين عاماً من الاقتتال والحروب وسوء النية.
كان الأداء السياسي لهذه النخب مخيباً للآمال، بل وفاجعاً في انتهازيته؛ فلم يمض وقت طويل حتى توافقت هذه النخب بعيداً عن قاعدتها الحزبية، أو عن شعاراتها التاريخية، على تمرير القرار الرئاسي الهروبي بتقسيم البلاد، وترحيل المظالم والصراعات إلى أمراء الأقاليم المستقبليين، فرحبت هذه الأحزاب بالقرار، متواطئة مع مراكز النفوذ التقليدية القديمة التي ثارت عليها. وبشكلٍ يدعو للسخرية، كان الخلاف الوحيد بينها حول عدد الأقاليم وتسميتها.
"
المواطن اليمني الغائب الفعلي عن المشهد العجائبي؛ وهو صاحب المصلحة الحقيقية الذي أشعل الثورة ضد النظام ومنظومته الفاسدة، وقدم شهداء وتضحيات كثيرة. يسقط هذا المواطن، اليوم، مرتهناً في يد نخبة سياسيةٍ تفكر بعقلية الغنيمة، وحسابات الربح والخسارة، وتقوية مراكز نفوذها، لتصادر حقه في اختيار الشكل المستقبلي الذي يريده لوطنه، وتغتال حلمه بمواطنةٍ متساويةٍ وحقيقية.
"
لم تنطلق مواقف النخب الهزيلة، وردود أفعالها المائعة، بشأن التقسيم، من مشروع وطني واضح، ينتصر لكل اليمنيين، من دون استثناء، يكرس من روح الهوية الوطنية الجامعة، ويعبر عن مصالحهم وأحلامهم في مستقبل جديدٍ، لا يتقاطع مع الماضي وصراعاته الدموية المنهكة. بل أطل الماضي الدموي المنهك من جديد، ليبتلع آمال اليمنيين في الانعتاق من أسرِه، ليظهر، الآن، في صورة أكثر دراماتيكية بهذا القرار الذي سوف يعود باليمن إلى أعتاب القرن الثالث الهجري، حيث ساد عصر الدويلات المستقلة المتصارعة في الأقاليم، وتزايدت حروبها الطاحنة، في فترة من أشد الصراعات مرارةً في التاريخ اليمني الوسيط، التاريخ الذي يعاد، اليوم، إنتاجه على يد حفنةٍ من سياسيي وزن الريشة، والذين لم يفكروا بكارثية هذا التقسيم، أمام استمرار صراع مراكز النفوذ القبلي والعسكري والديني والمذهبي في الأقاليم الشمالية، وشدة الاستقطابات، وبروز هويات ما قبل الدولة، وتصاعد الهويات المنغلقة في الأقاليم الوسطى والجنوبية التي تتغذّى على أوهام الماضي وأمجاده المزعومة.
وجعل هذا التقسيم محافظاتٍ ذات كثافةٍ سكانية في إقليم واحد عديم الموارد الاقتصادية، في حين تسيطر أقاليم قليلة السكان على إجمالي الموارد، ليُغيب إمكانية تحقيق توزيع عادل للثروة. وسترث بعض الأقاليم، دون غيرها، كل الملفات الشائكة، من تنظيم القاعدة إلى أنصار الشريعة إلى أنصار الله التي تقيم ممالكها الخاصة في غياب تام للدولة التي يرأسها رئيس يستمد شرعيته من المجتمع الدولي وليس من إسناد شعبي.
لم يستشر الرئيس الانتقالي، عبد ربه منصور هادي، خبراء اقتصاديين واجتماعيين، ليقدموا دراسة معمقة عن مشروع الأقاليم. كل ما فعله، في الأشهر السابقة، حشد إعلامي وسياسي، لتسويق المشروع حلاً سحرياً لكل المشكلات الوطنية العالقة، ولم يعمل طوال فترة حكمه لحل أيٍ منها حلاً جدياً. في حين لم يكن هذا المشروع هو الحل، أو حتى جزءاً منه على الصعيد الواقعي، بل سيعزز من نمو الهويات المنغلقة المتمترسة خلف الجغرافيا والقبيلة والمذهب، وسينتصر، كالعادة، أمراء الأقاليم والمليشيات ورجال الدين، في معادلةٍ تاريخيةٍ قديمةٍ، يعرفها اليمني جيداً.
هذا التقسيم الارتجالي لخارطة جغرافية يمنية هو تقسيمٌ قديم بكل فصوله، يغيب فيه دور المثقف اليمني الذي يعيش حالة صدمة وإنكار لواقع ينفرط إلى جيتوهات مغلقة، وكشاهد على هذا الخراب اليمني الجديد، يكتفي غالبية المثقفين بالبكاء على كل أمجاد الحركة الوطنية. ويظل المواطن اليمني الغائب الفعلي عن هذا المشهد العجائبي؛ وهو صاحب المصلحة الحقيقية الذي أشعل الثورة، وثار ضد النظام ومنظومته الفاسدة، وقدم شهداء وتضحيات كثيرة، ليسقط هذا المواطن، اليوم، مرتهناً في يد نخبة سياسيةٍ تفكر بعقلية الغنيمة، وحسابات الربح والخسارة، وتقوية مراكز نفوذها، لتصادر حقه في اختيار الشكل المستقبلي الذي يريده لوطنه، وتغتال حلمه بمواطنةٍ متساويةٍ وحقيقية.
في هذا الزمن اليمني الجديد الذي يدشن، الآن، أولى مراحله: زمن ما بعد المبادرة الخليجية، وما بعد المرحلة الانتقالية، زمن التقسيم والأقلمة، زمن أمراء الحرب وفتوات الأقاليم، زمن الصوملة والأفغنة، زمن كل التوصيفات المحزنة التي تصلح ملصقات دعائية لتوصيف جراحنا. في هذا الزمن، لا يبدو، لدينا نحن اليمنيين، سوى خيارين: أن نتمسك بالمشروع الوطني الحقيقي الذي أنجزته، نظرياً، الحركة الوطنية في العقود الماضية. أو أن نستمر، كمواطنين يمنيين مهزومين، ونكتفي برقصة الهنود الحمر، وندور حول أنفسنا دورة تاريخية إلى الوراء، ونحن نرى كل أحلام الثورة وتجلياتها وشعاراتها العادلة تذهب هباءً، في وطن يمني جميل وسيئ الحظ.
نقلاً عن العربي الجديد
المزيد في هذا القسم:
- فوائد ومخاطر من حرب الجيش ضد القاعدة !! بينما كان الاخوان المسلمون في اليمن يحاولون زج الجيش في حرب مع انصار الله بمحافظة عمران وصنعاء جاء ت الحرب التي يخوضها الجيش ضد القاعدة في الجنوب لتؤكد مقولة ...
- باتوا ينتفضون كالدجاج المذبوح ! بقلم : أ . عبدالباسط الحبيشي المرصاد نت غبت فترة عن الفيسبوك والتواصل الإجتماعي لظروف طارئة وهامة وبهذه المناسبة اشكر كل من حاول الإتصال بي او سأل عني.وها أنذا قد عدت ولم أرى خلال غيابي ا...
- الأممُ المتحدة ومجلسُ الأمن الدولي .. (يا قلبُ لا تحزن) المرصاد نت لا توجدُ عدالةٌ داخل (مجلس الأمن)؛ نظرا لهيمنة القوى الإمبريالية العالمية على المجلس ووجود (الفيتو)، أي حق الاعتراض، الذي تتمتع به الدول الخمس الكب...
- من المشاريع الصغيرة .. تحرير الحديقة متابعة لمقال الإسبوع الماضي بعنوان "تحرير الحديقة أولاً قبل إنقاذ اليمن" الذي مع الأسف لم ينشر على صفحات (اليقين) الغراء لوصوله بعد الطبع أو لربما ضياعه...
- حزب الاصلاح .. يبدل جلدته مثل الافاعي ! بقلم : أمة الملك الخاشب المرصاد نت اليدومي .. يقول أن التحالف الإسلامي الذي أسسته السعودية إنجاز عظيم يجب أن يشتد عوده ويدعو الى تفعيله بعد أن نام تقريبا ولم ينجز اي مهمة تبهج نفس ال...
- توقف المفاوضات ! بقلم : أ. عبدالباسط الحبيشي المرصاد نت التنبيه والإنتقاد البناء في إطار اللياقة والأدب يعزز دائماً من قوة المفاوض اليمني ولا يضعفه بل ويبصره في أمور قد تكون غائبة عنه في زحمة التكالب ...
- رسالة إلى قائد المسيرة ! بقلم : بديع الزمان اليماني المرصاد نت مر عامان، على بداية العدوان ، ولكننا بفضل من الله لم نهان، ومدنا الله بفضله بموفور الصبر والسلوان.مرت تلك الايام، ونحن في صراع مع اللئام، من عرفناه...
- هرمز والمندب ! بقلم : فهمي اليوسفي المرصاد نت تتصاعد المعركة الإعلامية بين طهران من جهة وواشنطن والرياض من جهة أخرى على ذمة قضية النفط وفقا لما تروجه القنوات الإمبريالية والرجعية .  ...
- قائد يخاطب شعبه.. وسنة إلهية في ظل الكفر ! بقلم : أحمد عبد الوهاب الشامي المرصاد نت مما هو طبيعي عند الإنسان في هذه الحياة أن النصر حليف من يمتلك الإمكانات و القدرات الأكبر لكن هذا يغفل سنة كونية لا تنطبق مع سنة خالق هذه الحياة ...
- الثورات والتحولات السياسية ! بقلم : علي حسين علي حميدالدين المرصاد نت رؤية خاصة : تتحرك الثورات والتحولات السياسية فتكون العاقبة السيئة على من هم يحملون مجموعة العوامل التي لا تؤهلهم للصمود امام المجريات واﻻحداث فمن ...