لماذا تخلَّت واشنطن عن حلفائها الكرد في سوريا؟

المرصاد نت - متابعات

لم تتعلّم بعض القوى «الكردية» السورية الأساسية من تجربة عفرين في ريف حلب الشمالي بداية العام الماضي. آنذاك لم تنفع «قسد» والقوى المنضوية تحتها بيانات الدعم الغربية ولا القوات Usa Syriaa2019.10.8الأميركية التي كانت تنتشر شرق الفرات. شنت تركيا عمليتها وسرعان ما سقطت عفرين ومحيطها وانسحب المقاتلون الأكراد منها نحو منبج وشرق الفرات. في نهاية الهجوم تردّد أن القوات التركية وفصائل «الجيش الحر» ستدخل مدينة تل رفعت الواقعة شرق عفرين في إطار عملية «غصن الزيتون».

ذلك اليوم كان كافياً أن تتوجه بضع آليات على متنها عسكريون سوريون يرفعون علم الدولة السورية نحو المدينة المهدّدة بدخول الأتراك ليتوقّف الهجوم. المعادلة لطالما كانت بسيطة: مظلة الحماية الوحيدة للأكراد تؤمنها الدولة السورية. وأمس سحبت واشنطن الغطاء عن حلفائها لو جزئياً كما سحبت قواتها من الشريط الحدودي بعدما ساهمت في تدمير تحصينات «قسد» فيه ضمن تطبيق «المنطقة الآمنة». تُرك الأكراد مجدداً لمصيرهم وفي موازين القوّة لن يتمكنوا من فعل شيء أمام المهاجمين. سيتركون أرضهم مرة أخرى مثلما تركوا عفرين. لكن، هل سيتعلم ساستهم هذه المرة؟

لم تمضِ أيام على صفع الولايات المتحدة لحلفائها الأكراد عبر الترحيب بقرار تشكيل اللجنة الدستورية وعدم المطالبة بتمثيلهم فيها، حتى جاء قرار واشنطن الأخير ليضع مسيرة التحالف مع القوى الكردية على مفترق طرق قد ينتهي بتخلٍ أميركي كامل عنها. هكذا حسمت الولايات المتحدة موقفها من «المنطقة الآمنة» بعد اتصال دونالد ترامب ــ رجب طيب أردوغان عبر الانسحاب من كامل نقاط المراقبة في منطقة تنفيذ «الآمنة» لتكون هذه الخطوة بمثابة نعي أميركي رسمي للاتفاق.

جاء الموقف الأميركي بعد أقلّ من 48 ساعة من إعلان الرئيس التركي أن الهجوم على مواقع «قسد» في شرقي الفرات بات محسوماً، ولا رجعة فيه. وربما تكتفي واشنطن، هذه المرة، بقرار الانسحاب من أجزاء من الشريط الحدودي، من دون وجود قرار نهائي بالانسحاب من كامل الأراضي السورية. ولعلّ العودة إلى تغريدة الرئيس الأميركي الشهيرة، في الشهر الأخير من العام المنصرم، والتي أعلن فيها بدء الانسحاب من سوريا، قبل أن يتراجع بضغط من العسكريين وبعض المسؤولين في إدارته، تفيد في تصوّر ما قد تؤول إليه الأمور هذه المرة أيضاً إذ قد يكون الانسحاب جزئياً فقط، وهذا لا يزال غير محسوم حتى اللحظة. وسعى ترامب، من خلال تغريدته الجديدة أمس إلى التأكيد أن وجهة نظره بشأن الانسحاب ثابتة من خلال قوله إن «الانسحاب كان يجب أن يتم خلال 30 يوماً» واعتباره أن «الوقت حان لنخرج من الحرب السخيفة».

وأمام عدم وضوح الرؤية الأميركية الكاملة بخصوص الانسحاب، وعدم الكشف عن طبيعته أو أي جدول زمني في شأنه، وإزاء تصريحات من «الكونغرس» و«البنتاغون» تشي بتوافقهما على رؤية معاكسة لرؤية ترامب ترتفع احتمالات أن يتشكل ترتيب جديد تنتج عنه خريطة انتشار جديدة للقوات الأميركية في المنطقة، لا تفرّط في القوى الكردية بشكل كامل ولا تستفزّ الأتراك. وفي هذا السياق، أكد مصدر مطّلع على التنسيق بين «قسد» والأميركيين وأن قرار ترامب «جاء لاستيعاب الضغوط التركية وثني أنقرة عن القيام بعملية عسكرية واسعة تستهدف كامل شرقي الفرات»، واستبعد المصدر أن «يشمل قرار الانسحاب كامل الأراضي السورية لكونه يتضارب مع سياسة واشنطن الهادفة إلى تقويض نفوذ إيران في سوريا» مضيفاً أن «القوات الأميركية ستكتفي بإعادة تموضع لقواتها بشكل قد يسمح لتركيا بالسيطرة على مناطق حدودية محدودة».

وفي ظلّ التطورات الأخيرة رفض رئيس «مجلس سوريا الديموقراطية» رياض درار إعلان أي موقف من قرار الانسحاب، مكتفياً بأن «المجلس ينتظر توضيحات، لإبداء رأيه»، فيما أشار مصدر كردي آخر إلى أن «الكرد لا يزالون يعوّلون على موقف صارم من البنتاغون، لثني الرئيس ترامب عن قراره الأخير»، مؤكداً أن «قرار البيت الأبيض يحتاج إلى دعم العسكريين، وهو ما لم يحصل حتى الآن». وتوقع المصدر أن «تشهد الأيام المقبلة تغيراً في المشهد لصالح قسد». وعلى رغم أن ترامب قال إن «مسؤولية معتقلي داعش باتت بيد تركيا»، في ما فُهِمَ أنه تسليم ملف شرقي الفرات كاملاً للأتراك إلا أنه يبدو أن القوى الكردية تريد استثمار ورقتَي معتقلي «داعش» وعوائلهم للضغط نحو الحصول على مواقف دولية، قد تمنع الأتراك من تنفيذ تهديداتهم.

ومع عدم وجود وقت كاف للقوى الكردية لإعادة ترتيب أوراقها بعدما بات الانسحاب من جزء من الشريط الحدودي أمراً واقعاً، يُتوقّع أن تلجأ تلك القوى إلى موسكو، لمحاولة كسب قبول دمشق بالحوار من جديد. ولعلّ تلميح قيادة «قسد» إلى احتمال دخول الجيش السوري والقوات الروسية إلى مدينة منبج (غربي الفرات) هو محاولة من قِبَلها للإيحاء بنية العودة إلى تغليب التنسيق مع موسكو ودمشق، وهو ما يكاد يكون الخيار شبه الوحيد أمامها، مع انطلاق العملية التركية. إلا أن المحاولات الكردية قد لا تلقى آذاناً في دمشق، إذا لم تكن مرهونة بخطوات جدية. وفي هذا السياق، يؤكد مصدر في شرقي الفرات، على صلة بسياسيين سوريين رفيعي المستوى، أن «دمشق لا تثق بالقيادات الكردية»، وأن «كل اللقاءات مع قادة الكرد لم تثمر، وأدّت إلى إغلاق باب الحوار بسبب الشروط الكردية المرتفعة». كما اعتبر المصدر أن «الفرصة سانحة للقيادات الكردية لتسجيل موقف وطني يعيدهم إلى الحالة السورية الوطنية».

انسحاب من «الشريط الحدودي»: حشود عسكرية على طرفي الجبهة
لم يطل الأمر بعد اتصال أردوغان بنظيره الأميركي دونالد ترامب في وقت متأخر من ليل أول من أمس حتى بدأت القوات الأميركية إخلاء بعض نقاط المراقبة والمواقع الصغيرة المنتشرة في المنطقة الحدودية شمال شرق سوريا. وفق المعلومات الميدانية بدأت القوات التي كانت تنفذ الدوريات المشتركة مع نظيرتها التركية في إطار تنفيذ اتفاق «المنطقة الآمنة» الانسحاب بداية من نقطة تل أرقم في ريف الحسكة الشمالي الغربي، ثم من موقع أميركي في مدينة تل أبيض الحدودية قبل أن تبدأ انسحاباً من كامل نقاط المراقبة والمواقع الممتدة على طول الشريط الحدودي من تل أبيض حتى رأس العين شرقاً، باتجاه القاعدة الأميركية في الجلبية على طريق الرقة ـــــ حلب.Map Syria2019.10.8

ومساء أمس شهدت منطقة المالكية الحدودية في أقصى الشمال الشرقي تحليقاً مكثفاً لطائرات حربية تركية. وبعد ذلك أفادت مصادر محلية بأن قصفاً مدفعياً طاول مواقع للوحدات الكردية في تل طويل في أقصى ريف المالكية الشمالي الشرقي، بالقرب من المثلث الحدودي التركي ـــ السوري ـــ العراقي. وبالتزامن نشرت مواقع كردية مشاهد قالت إنها لقصف معبر سيمالكا الحدودي نحو كردستان العراق، نافية وقوع أي خسائر. بعدها مباشرة أفادت وسائل الإعلام السورية الرسمية بأن «العدوان التركي طاول جسر معبر سيمالكا» فيما تحدثت تنسيقيات المسلحين عن أن «الغارة استهدفت شحنة أسلحة نوعية تابعة لقسد قرب سيمالكا» مبينة أن من الأسلحة التي تم تدميرها مضادات طائرات ودروع. كذلك انتشرت مساء أمس صور ومقاطع مصورة لعدد كبير من الشاحنات التي تعبر من العراق نحو منطقة شرقي الفرات. وقدّر عدد الشاحنات التابعة لـ«التحالف الدولي» بنحو 80 شاحنة مغلقة ومن ضمنها سيارات عسكرية. كما تحدثت معلومات ميدانية عن قصف تركي على نقاط تابعة لـ«قسد» شرق تل أبيض من دون التمكن من التحقق من ذلك.

في المقابل سارعت «قسد» إلى التلويح مجدداً بورقة معتقلي «داعش» عبر تأكيد مدير مركز إعلامها مصطفى بالي أن «قواتنا بدأت فعلياً تخفيف عدد عناصر الحراسة في المعتقلات والسجون التي يوجد فيها عناصر من داعش لمواجهة الغزو التركي» مستدركاً: «نأمل أن نستطيع التصدي للغزو ونحمي السجون والمعتقلات معاً». ووصف بالي القرار الأميركي بأنه «خطأ» وأنه سيؤدي إلى «حرب جديدة في المنطقة» معتبراً أن «قرار الانسحاب سيخدم روسيا وإيران والنظام السوري كما سيخدم داعش».

جراء ذلك سحبت «قسد» عدداً من قواتها التي تتولى حماية حقل العمر النفطي شرقي مدينة الميادين في محافظة دير الزور الذي يشغله أميركيون وأوروبيون، للإيحاء بأن الانسحاب الأميركي سيؤدي إلى «اضطرار» القوات الكردية إلى التخلي عن حماية حقول النفط ومخيمات المعتقلين. وأصدر «مجلس سوريا الديموقراطية» بياناً قال فيه إن «واشنطن تخلت عن مسؤولياتها في الحرب على الإرهاب» مبدياً «استعداده للقيام بكل ما يلزم من خطوات وتفعيل قنوات الحوار مع مختلف الأطراف الدوليين ذوي الشأن بالملف السوري لوقف هذا الاعتداء».

وبسرعة أيضاً بدأت «قسد» ترويج أن نتائج الانسحاب ستكون حتماً لمصلحة لجيش السوري وحلفائه وذلك بنشر الصفحة الرسمية لها تغريدة على «تويتر» أكدت فيها أنه «كنتيجة أولى للانسحاب الأميركي، وفشل المنطقة الآمنة قوات النظام مدعومة من روسيا تستعد للتحرك عسكرياً باتجاه منبج». وتزامن ذلك مع نشر مواقع إعلامية مقرّبة من «قسد» أن ضباطاً من القوات الروسية الموجودة في محيط منبج التقوا نظراءهم الأميركيين في قرية المحسنلي في ريف منبج مساء أمس. ونقلت تلك المواقع أن الروس أبلغوا الأميركيين نيتهم دخول منبج كما وردت أنباء في وقت متأخر من ليل أمس عن دخول تعزيزات تركية تضم مدرعات وآليات من بوابة جرابلس الحدودية باتجاه المعبر الفاصل بين جرابلس ومنبج الخاضعة لسيطرة «قسد».

على المقلب الآخر تؤكّد الأوساط في دمشق، التي التزمت الصمت أمس أن «أي عملية تركية في المنطقة ليست سوى احتلال صريح». وتشير هذه الأوساط إلى أنه «لطالما حذّرت دمشق القوى الكردية في شرقي الفرات من عواقب التحالف مع الأميركيين» مبيّنة أن «المفاوضات مقطوعة نهائياً منذ عام تقريباً بسب تعنّت المسؤولين الأكراد وإصرارهم على الحصول على حكم ذاتي وهو ما استمرت دمشق في رفضه». كما ذكرت أن محاولات التفاوض فشلت «على رغم دخول وسطاء من شخصيات ودول... في اليومين الأخيرين جرى أكثر من اتصال من القوى الكردية بالحكومة» لكن دمشق «تتريث في اتخاذ أي قرار لأنها تريد تلمّس تحوّل حقيقي في مواقف ومقاربة الأكراد للقضايا كافة».

هذه المرّة لن تكون كسابقاتها
للمرة الثالثة على التوالي، يعلن الرئيس الأميركي انسحاباً لقواته من سوريا. ما جرى البارحة شبيه إلى درجة كبيرة بما تمّ في كانون الثاني/ ديسمبر 2018م بعد محادثة هاتفية مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان أعلن دونالد ترامب خروج الجيش الأميركي من الشمال السوري. لكن الفارق الكبير هو أن القرار بدأ تنفيذه مباشرة على الأرض فاختفت هذا الصباح قاعدة تل أبيض ومواقع مراقبة أميركية عديدة ما يؤكد أننا أمام توجّه حاسم لا رجعة عنه. ما يعزّز هذا التقدير أيضاً هو لهجة الرئيس الأميركي الحادّة في تغريداته بعد الإعلان عن قراره: «لقد آن الأوان لكي نخرج من هذه الحروب السخيفة التي لا تنتهي والكثير منها قبلية...على تركيا وأوروبا وسوريا وإيران والعراق وروسيا والأكراد الآن حلّ الوضع».

برزت مجدداً أصوات معترضة على قراره بينها صوت السيناتور الجمهوري المقرّب منه ليندسي غراهام الذي دعاه إلى العودة عنه معتبراً أنه سيؤدي إلى كارثة وملوّحاً بتقديم مشروع قرار لمجلس الشيوخ يطالب بالعودة عنه، لكن المرجّح اليوم هو فشل القوى المعترضة في ثني الرئيس عن فعل ما يراه مناسباً. ميزان القوى تغيّر كثيراً داخل الإدارة بعد رحيل جيمس ماتيس وبريت ماك غورك وجون بولتون وتقاعد الجنرال جوزف فوتيل الذين شكّلوا على الرغم من خلفياتهم ومواقفهم المتناقضة في العديد من الأحيان النواة الصلبة والمؤثّرة لهذه القوى المعترضة. ترامب، في الظرف الحالي طليق اليدين إلى درجة كبيرة ومن الصعب أن تنجح ضغوط اللوبي الإسرائيلي في حمله على التراجع عن قراره على الرغم من تداعياته الخطيرة على مآلات الصراع في الإقليم، خاصة بالنسبة لإسرائيل. أما الحركة الكردية فهي باتت مضطّرة، بعد خيانة الحليف الأميركي لها، لأن تختار بين مواجهة عسكرية دامية ومدمّرة وبلا أفق مع تركيا أو التسليم للدولة السورية وحلفائها، للخروج بأقلّ الخسائر الممكنة من مأزقها الوجودي الحالي.

ترامب طليق اليدين
منذ وصوله إلى السلطة، لم يكن دونالد ترامب مقتنعاً بجدوى بقاء قوات أميركية في سوريا بعد إنجاز مَهمتها أي «القضاء على داعش». عندما أعلن للمرة الأولى في آذار/ مارس 2018 عزمه على سحب جنوده من هذا البلد، تقاطعت أطراف كثيرة، من داخل الإدارة وخارجها، لإقناعه بعدم القيام بذلك. ركزت تلك الأطراف على ثلاث حجج أساسية: ضرورة بقاء القوات الأميركية إلى جانب «قسد» للتصدي للنفوذ الإيراني ومنعه من الاتساع؛ توظيف تواجد هذه القوات أيضاً كرافعة للتأثير في أيّ حلّ للأزمة السورية؛ وأهمية حفاظ الولايات المتحدة على سمعتها عبر عدم التخلي عن حلفاء (والمقصود «قسد») قاتلوا إلى جانبها ضد الإرهاب، والسعي لضمان أمنهم وتحقيق الحدّ الأدنى من مطالبهم قبل التفكير بالانسحاب. خلفيات الجهات التي تذرّعت بهذه الحجج متباينة.

بعضها كانت دوافعها الرئيسة تطمين الحلفاء وفي مقدّمها إسرائيل إلى أن الولايات المتحدة ليست بصدد التخلي عنها، وترك الشرق الأوسط «لقمة سائغة للنزعة التوسّعية الإيرانية». أما الجهات الأخرى كجوزيف فوتيل، قائد هيئة الأركان الأميركية بين آذار 2016 وآذار 2019م والذي ترأّس قبلها قيادة العمليات الخاصة المشتركة للجيش الأميركي، ينظر (إضافة إلى عدائه لإيران) إلى «قسد» باعتبارها صنيعته إلى حدّ كبير. فهو الذي أشرف على تنظيمها وتدريبها وتسليحها، فيما خاضت هي معارك عديدة بإشرافه عملياً. تفصيل آخر جدير بالاهتمام وهو اتهام الرئيس التركي في خطاب ألقاه في 29 تموز/ يوليو 2016م فوتيل بالتورّط في المحاولة الانقلابية التي وقعت في تركيا. وقد ردّ الجنرال الأميركي متهماً بدوره الحكومة التركية باعتقال العناصر الأطلسية الميول في الجيش التركي. التعاطف نفسه مع «قسد» كان موجوداً لدى المبعوث الأميركي الخاص للحرب على «داعش»، بريت ماك غورك.

بالإضافة إلى الضغط الداخلي تعرّض الرئيس الأميركي لضغوط خارجية من قِبَل إسرائيل والسعودية وفرنسا وبريطانيا لعدم إخراج قواته من سوريا. استقال وزير الدفاع الأميركي جايمس ماتيس في كانون الأول/ ديسمبر 2018 احتجاجاً على إعلان الانسحاب الثاني لترامب، وتبعه ماك غورك، وأقيل جون بولتون من منصبه كمستشار للأمن القومي خلال الشهر الماضي. لم يتمكن هؤلاء على رغم اختلاف مواقعهم وخلفياتهم ودوافعهم حيال الملف السوري من إثبات صحة رؤيتهم في الميدان. لم يَحُل وجود القوات الأميركية في سوريا دون تعزيز دور إيران وحلفائها فيها ولم يصلح هذا الوجود كرافعة من أيّ نوع لفرض شروط أميركية بالنسبة إلى الحل السياسي في سوريا.

أما في ما يتعلق بمصداقية الولايات المتحدة حيال الحلفاء، فإن ترامب، الذي لا يُقيم وزناً أصلاً لفكرة التحالف مع أيّ كان، بمن فيه مع الشركاء التاريخيين للولايات المتحدة في «حلف الأطلسي» لن يأبه لمصير حلفاء ظرفيين كـ«قسد». لقد خانت واشنطن حلفاءها الأكراد وهو أمر ليس بجديد ولن تغير هذه الحقيقة الإعلانات المتكرّرة الصادرة عن وزارتَي الدفاع والخارجية الأميركيتين عن عدم تأييد بلادهم للعملية العسكرية التركية. بقية حلفائها في المنطقة وفي طليعتهم إسرائيل قلقون جداً مما يؤشر عليه هذا الانسحاب لأنهم يعتبرون أنه مقدمة للانسحاب الكامل من سوريا ما سيتيح للدولة السورية وحلفائها ملء الجزء الأغلب من الفراغ الذي سيخلّفه. بكلام آخر محور المقاومة سيكون المستفيد الأول من التطوّر الأخير.

الدولة السورية أو الاندحار الكامل
الحركة الكردية تقف على مفترق طرق مصيري. الخيار الأول هو المواجهة العسكرية مع تركيا وحلفائها في مدن الشمال السوري. هذه الأخيرة أصبحت معاقل للحركة كمنبج والقامشلي وعامودة والمالكية وغيرها وهي ستسعى للصمود فيها في محاولة يائسة للحفاظ على إنجازات المرحلة السابقة التي تحقّقت في ظروف استثنائية ما كان يمكن أن تستمر. فقد أدى تضافر مجموعة من العوامل البنيوية والظرفية المحلية والإقليمية والدولية إلى تقاطعات مؤقتة في المصالح بين الحركة الكردية وقوى وازنة دولية وإقليمية.

قيادة هذه الحركة اعتقدت أن من الممكن التأسيس لعلاقة تحالف طويلة الأمد مع الولايات المتحدة على قاعدة القيام بدور وظيفي خدمة لاستراتيجيتها في المنطقة، المُوجَّهة أولاً ضدّ إيران. لكن هذه القيادة تجاهلت حقيقة تراجع القوة الأميركية وبروز أولويات استراتيجية جديدة بالنسبة إليها، وحرصها - على رغم الخلافات الفعلية بينها وبين تركيا - على عدم الذهاب إلى حدّ القطيعة الكاملة معها ودفعها للمزيد من التعاون مع الصين وروسيا. خيار الخروج بالحدّ الأدنى من الخسائر يفترض القبول بالعودة غير المشروطة للدولة السورية والاعتماد عليها وعلى حلفائها لإيجاد مخرج من المأزق الذي أوصلتها إليه رهاناتها على التحالف مع الولايات المتحدة ضدّ دول الإقليم الرئيسة.

إلى حدود «الميثاق الملّي»... دُرْ!
قبل أيام كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يطلق تحذيراً قوياً يُشتمّ منه أن العملية العسكرية التركية في شرقيّ الفرات تكاد تبدأ إن لم تكن قد بدأت عملياً عبر التحضيرات اللوجستية المكثّفة والحشود العسكرية على حدود منطقة شماليّ سوريا. الاتصال الهاتفي بين أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب مساء الأحد الماضي، جاء بعد تحذيرات «البنتاغون» من أن أي عملية عسكرية تركية ستنعكس سلباً على المصالح الأمنية المشتركة. لكن بيان البيت الأبيض بعد المحادثة الهاتفية فُتح على احتمالات متعددة وبداية مرحلة جديدة من الوضع في شرقيّ الفرات وفي شماليّ سوريا عموماً. فالبيان أكّد أولاً أن العملية العسكرية التركية ستبدأ وثانياً أن الولايات المتحدة لن تشارك فيها ولن تدعمها، وأن تركيا ثالثاً مسؤولة عن مقاتلي «داعش» الذين كانوا أُسروا سابقاً، وهم موجودون في منطقة شرقيّ الفرات.

يفتح البيان باب الاحتمالات أمام:
1- إن الولايات المتحدة لن تقف حجر عثرة أمام العملية، وستُجيز لتركيا احتلال شريط شماليّ سوريا كان عَرَضه أردوغان أمام الأمم المتحدة، من دون التوغّل في عمق المناطق التي تتواجد فيها «قوات حماية الشعب» الكردية. وبذلك، تفكّ واشنطن عقدة التوتر في العلاقات بين البلدين.
2- إن الولايات المتحدة تستدرج تركيا للتورط في مستنقع عبر القول إن واشنطن لن تشارك في العملية ولن تدعمها، وإن تركيا ستكون مسؤولة عن مقاتلي «داعش» الذين كانوا أُسروا. وهذا يعني أن يقلّع الجيش التركي شوكه بيديه، كما قد يواجه حرب عصابات مزدوجة، واحدة من «قوات الحماية» الكردية، وثانية من مسلحي «داعش»، وبدعم أميركي. وهو تورط لا يُعرف الشكل الذي سيؤول إليه وانعكاساته في سوريا وفي الداخل التركي.

3- كيفما اتفق، فإن عدم اعتراض أميركا بالقوة للقوات التركية سيُعتبر، في جزئية منه، تخلّياً من قِبَل واشنطن عن «قوات الحماية» الكردية التي كانت تعرف أنها ستصل إلى هذه اللحظة، لكنها راهنت على تطورات معاكسة. ولا يُعرف القرار الذي ستتخذه «قوات الحماية» الكردية: هل ستقاوم منذ اللحظة الأولى لدخول الجيش التركي؟ أم ستنكفئ إلى مناطق عمق شرقيّ الفرات وتكتفي بها؟وهل ستمدّ يد التعاون للجيش السوري وتبدأ مرحلة جديدة بعدما وقعت بين مطرقة الهجوم التركي وسندان التخلّي الأميركي؟وهل ستقبل دمشق اليد الكردية في حال مُدّت؟ أم سيُترك الأكراد لقدرهم بعدما تخلّى الجميع عنهم بقدر ما هم مسؤولون أيضاً عن هذا الوضع؟ قد تكون أمام الأكراد فرصة الخروج المبرّر من التحالف مع واشنطن الذي أرهقهم كثيراً على الصعيد المعنوي والأخلاقي، هم الذين ينتمون إلى الخط الأوجالاني المناهض للإمبريالية الأميركية والاستعمار. وعلى رغم أن «الشماتة» السورية قد تكون حاضرة لِمَا وصلت إليه خيارات الأكراد، لكن الدولة السورية ووحدة أراضيها ستكونان هما المنتصرتين في حال تعاطت الدولة مع الأكراد من منطلق الأمّ الحاضنة لكل أبنائها والمتفهّمة لهواجسهم، والصافحة عند المقدرة.

4- جاء بيان الرئيس الأميركي حول أن الوقت حان لانسحاب القوات الأميركية من حرب كان يُفترض أن تستمر فقط ثلاثين يوماً، ليعكس في جانب منه تخبّطاً موصوفاً عُرف عن ترامب في شأن سوريا وغير سوريا. وإذا لم يكن الانسحاب الأميركي وإعطاء الضوء الأخضر لتركيا للقيام بالعملية متفقاً عليهما مسبقاً، فهذا يعني أن منطقة شماليّ سوريا مفتوحة على سيناريوات عدة ليست الفوضى الشاملة سوى أحدها.
5- في جميع الأحوال، إن تركيا، بمعزل عن النوايا الأميركية، ستعتبر نفسها منتصرة منذ الآن، على اعتبار أنها نفّذت تهديداتها ضمن المهلة التي كان أردوغان قد حدّدها تقريباً. وسيكون لتركيا موطئ قدم في شرقيّ الفرات، وقد تستغل الفرصة التي قد لا تتكرر، وتتوغل في العمق لأكثر من 30 كيلومتراً للتخلص من «قوات الحماية» الكردية، وما يعرف باسم «قوات سوريا الديموقراطية - قسد»، مرة واحدة وإلى الأبد.

يقول إبراهيم قالين الناطق الرسمي باسم القصر الرئاسي التركي، في تغريدة له صباح أمس إنه ليست لتركيا مطامع في أرض أحد، وإن هدفها من العملية العسكرية هو تنظيفها من الإرهابيين الأكراد وإعادة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم. مع ذلك، فإنه على الرغم من كلّ الضجيج الذي سيرافق العملية العسكرية التركية، فإن التساؤلات بعيداً عن إنكار قالين للأطماع، تكبر وتتوسع حول الصلة بين العملية العسكرية المحتملة في شرقيّ الفرات وبين الإجراءات التي قامت وستقوم بها السلطات التركية في المناطق السورية التي تخضع لاحتلال الجيش التركي في مثلث جرابلس - أعزاز – الباب، وفي عفرين كما في إدلب حيث الحضور التركي العسكري المباشر تحت مسمى نقاط المراقبة في منطقة «خفض تصعيد» إدلب كما في محاولات إعادة أكثر من مليونَي لاجئ سوري إلى منطقة شرقيّ الفرات تحديداً.

فعلى المستوى العسكري، أعلن قبل أيام أكثر من 200 فصيل عسكري في إدلب ومناطق جرابلس وعفرين التوحّد تحت مسمى «الجيش الوطني» وتعيين سليم إدريس، وزير الدفاع في الحكومة المؤقتة للمعارضة السورية قائداً له علماً أن المصادر التركية تشير إلى أن إدريس معروف بعلاقاته الممتازة مع الولايات المتحدة، فيما تم تعيين عدنان الأحمد وفضل الله الحجي نائبين له في مناطق حلب وإدلب. وفي الاجتماع الذي عُقد في شانلي أورفة، تم تعيين عبد الرحمن مصطفى رئيساً للحكومة. وقد ذكر يوسف حمود، الناطق باسم هذا الجيش، أن عديده يقارب المئة ألف مقاتل. إلى ذلك، شكلت تركيا شرطة محلية تدفع لها رواتب لحفظ الأمن في المناطق السورية المحتلة.

وكان ذا دلالة أن تنشر وكالة «الأناضول» أمس، صوراً لتدريبات «كتائب حمزة وسليمان شاه» التابعتين لـ«الجيش السوري الحرّ» في عفرين شارك فيها 2500 عنصر استعداداً - وفقاً لسيف أبو بكر قائد «كتائب حمزة» - للمشاركة في الهجوم على شرقيّ الفرات. ويقول مسؤولو «الجيش الوطني» إن الهدف هو تحول التنظيمات المسلحة إلى بنية نظامية. ومثل هذه البنية تسعى إليها تركيا ليكون للجيش الجديد دور أكثر تأثيراً في العمليات العسكرية التركية المتوقّعة في شرقيّ الفرات، وربما في مناطق أخرى، ولكي يكون هذا الجيش المرجعية الوحيدة في المناطق التي تحتلّها تركيا مباشرة أو غير مباشرة بعيداً عن التمرّدات التي تحصل أحياناً في وجهها..

وعلى المستوى الاجتماعي تُظهر أنقرة اندفاعاً مطّرداً. ففي الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري أصدر الرئيس التركي القرار رقم 1616 الذي ينصّ على أن تُشكّل في إطار جامعة غازي عينتاب ثلاث كليات تقع على الأراضي السورية: الأولى كلية العلوم الإدارية والاقتصادية في مدينة الباب وكلية العلوم الإسلامية في أعزاز، وكلية التربية في مدينة عفرين. أما جرابلس ففيها معهد فني عالٍ هو أول مؤسسة تعليم عالٍ تركية خارج تركيا، ويتبع جامعة غازي عينتاب، وقد صدر قرار به في 5 حزيران/ يونيو 2018، وباشر التعليم في تشرين الأول 2018.

والمفارقة أنه في اليوم نفسه لصدور القرار في الجريدة الرسمية، كان علي غور رئيس جامعة غازي عينتاب، يعقد مؤتمراً صحافياً يعلن فيه بدء التدريس في الكليات الثلاث يوم الإثنين التالي (7 تشرين الأول) أي بعد ثلاثة أيام فقط من صدور قرار رئيس الجمهورية. ذكر غور أن عدد الطلاب الذين سيتابعون دراستهم في هذه الكليات يقارب السبعمئة طالب. ويمكن للطلاب السوريين الذين يدرسون في الجامعات التركية أن يواصلوا الدراسة في الكليات الجديدة في حال رغبوا في ذلك. كما يمكن للطلاب الأتراك الذين اجتازوا امتحان الدخول إلى الجامعات التركية أن يتابعوا دراستهم في الكليات الجديدة مع تقديم تسهيلات مالية على شكل منح مجانية لتشجيع الانتساب إليها. وقال غور إن لغة التعليم ستكون التركية والعربية مُعلِناً أنه حتى الآن تقدّم أكثر من ستمئة أستاذ جامعي لطلب التعليم في الكليات، كما راجعها 2900 طالب.

تطرح هذه الخطوات بالطبع تساؤلات عن كيف يمكن أن يصدر قرار في 4 تشرين الأول، وتبدأ الدراسة في 7 تشرين الأول، ويتقدم هذا الكمّ الكبير من الأساتذة للعمل، والطلاب لمتابعة الدراسة. الجواب الوحيد أن التحضيرات بدأت منذ وقت بعيد لا يقلّ عن بضعة أشهر إن لم يكن أكثر، علماً أنه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 كانت تركيا تفتح مركزاً تابعاً للبريد التركي في مدينة عفرين، هو الفرع السادس في سوريا منذ ربيع 2017 بعد أعزاز وجرابلس وتشوبان بك والباب ومارع. أيضاً، باشرت تركيا إقامة دورات تثقيفية وتأهيلية لرجال دين سوريين وفقاً للنظام الديني التركي.

لكن ماذا يعني أن تُنشئ تركيا جامعات داخل أراضي الجمهورية السورية من دون نيل موافقة الدولة السورية، أي أن تُنشئ دولة مؤسسات داخل أراضي دولة أخرى؟ وبموجب أي صلاحية وقوانين أو اتفاقيات؟ وهل تجيز القوانين التركية إنشاء مؤسسات داخل دولة أخرى من دون إذنها؟ وهل يجوز للدولة السورية أن تفعل الشيء نفسه داخل تركيا؟ بل الأهم: لماذا تفعل تركيا ذلك؟
إن التغيير الديموغرافي في المنطقة التي تحتلّها تركيا قائم على قدم وساق من خلال إحلال جماعات تركمانية وعربية موالية لها بدلاً من الأكراد والسريان والعرب السوريين. وسواء أكانت أميركا أو روسيا موافقة أم لا، يتسلّل أردوغان بين البيض الروسي والأميركي سواء في غربيّ الفرات أم شرقيّه.

فيأتي اقتراحه توطين مليوني لاجئ سوري في شرقيّ الفرات كما «الاستيطان» الثقافي والجامعي والديني التركي، في إطار عمليات التغيير الديموغرافي هذه، والتي تصبّ كلها في مساعي إقامة «كوريدور تركي» مباشر أو تابع، من إدلب إلى الحدود العراقية بدلاً من «الكوريدور الكردي» على مساحة الشريط الحدودي داخل سوريا، والذي اعتبره البرلمان العثماني بتأييد أتاتورك عام 1920 جزءاً من حدود «الميثاق الملّي» الذي هو الهدف الرئيس للمشروع التركي الحالي وللعملية العسكرية المرتقبة في شرقيّ الفرات عشية الذكرى المئوية لصدور «الميثاق الملّي».

المزيد في هذا القسم:

المزيد من: الأخبار العربية والعالمية