رياحينُ الفصول غيابُ الذات ... وانتشارُ الأريج

المرصاد نت - خاص

ولد علي عبد الرحمن جحاف في قرية الشرف بني غشم، ناحية بني العوام محافظة حجة عام 1363هـ / 1944م. درس القرآن الكريم وعلومه في الشغادرة، حجة، ثم التحق بالمدرسة العلمية بمدينة المحابشة ودرس بها الإنشاء والمخطوطات واللغة العربية،gaohaf2016.7.29


والمعاني، والبديع، والبيان. واصل تعليمه بالمدرسة المتوسطة بحجة ثم العلمية، وتعتبر هذه المدارس متقدمة في ذلك الوقت.
وأخذ عن الأستاذ أحمد هاشم الشهاري، والأستاذ محمد المحطوري، والأستاذ العزي المصوعي، والأستاذ محمد هاشم الشهاري، وغيرهم. قامت ثورة 26 سبتمبر وجحاف في حجة ، ثم سافر بعد أن أتم المرحلة الإعدادية إلى مصر حيث درس فيها بمدينة حلوان، ثم بمدينة طنطا لمدة عامين، ثم عاد بعدها إلى صنعاء، ثم انتقل إلى الحديدة، حيث عمل لمدة في سكرتارية مشروع سردود الزراعي، ثم التحق بالعمل بمديرية الإعلام بالحديدة، واشتغل مذيعاً في إذاعة صغيرة كانت تغطي مدينة الحديدة آنذاك. وعقب زواجه من ابنة عمه عام 1969م انتقل إلى صنعاء حيث مكث ما يقارب الأربعة أعوام يعمل في سكرتارية المجلس الوطني الذي أنشئ تمهيداً لمجلس الشورى أوائل السبعينات.

وفي تلك الأثناء في نهاية القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة، اُفتتح بإذاعة صنعاء برنامج بريد المستمعين الذي عرف عبره على نطاق واسع، وارتبط خلاله مع إذاعة “صنعاء” ومستمعيها والشعراء الآخرين بعلاقة وثيقة، حيث كانت توجّه إليه قصائد من المستمعين ومحاولات شعرية، مساء كل خميس موعد بثّ البرنامج، ويطلب ردّ الشاعر والأديب علي عبد الرحمن جحاف عليها، فلا يتوانى عن الردّ في الأسبوع الذي يليه، على سبيل المساجلة الشعرية بينه وبين أبناء جيله من الشعراء. انتخب أوائل السبعينات عضواً بمجلس الشورى، ممثلاً لناحية كشر ووشحة، فالتحق بعضوية مجلس الشورى لمدة أربعة أعوام ثم مرض خلالها بالأعصاب، فاستقر في العبيسة إلى أوائل التسعينات. عام 1992م رأس تحرير صحيفة “الكشكول” الأدبية التي كان يموّلها عبدالوهاب الشهاري رحمه الله، لكنها توقّفت بعد أشهر من صدورها، بسبب سفر نجل الشهاري لإكمال دراسته العليا، وبسفره انقطع تمويل الصحيفة، إضافة إلى إصابة شاعرنا بمرض القلب، ثم استقر بمدينة صنعاء.

برز جحاف من أهم شعراء اليمن المعاصر، وعلى مدى تجربته الأدبية أثرى المكتبة الشعرية اليمنية بعدد من الأعمال التي اعتنى بها النقاد وقدمها عدد من الأصوات الغنائية، أصدرت له أربعةُ دواوين شعرية كاذي شباط 1989م، فل نيسان 2002م، رياحين آذار 2002م، ورود تشرين 2006م، ونشرت له العديد من القصائد والكتابات الأدبية في عدد من المجلات والصحف والملاحق المتخصّصة بالأدب والثقافة، كالثقافية، والملحق الثقافي لجريدة الثورة، ومجلة الحراس، وجريدة الأمة، ومجلة الوطن للمغتربين. كما تناول الكتّاب والنقاد تجربته الشعرية في الداخل اليمني وخارجه، والتي تم الإجماع على فرادتها وألقها. ترك مؤلفات لم تطبع منها: ديوان أهازيج الجراح من أدب المقاومة، وديوان مناجاة، وديوان حكم أمير المؤمنين، وديوان امرأة بلا حجاب مدينة بلا أسوار. و ديوان آخر لم يسمه وغيرها من الأعمال الأخرى.

جحاف قدم إلينا من نواحي ريفية بعيدة حيث المبدع منسي هناك، بقلبٍ مثقلٍ بالهموم والمعاناة على مدى طويل منذ استشهاد والده وهو في مقتبل العمر ، إلا أن في معاناته وعزلته شعر مدهش، يجعل المفردات تبدو أجمل من معانيها، وأرق من قلبه الحنون، يعي فيها لغة اللون والملمس والرائحة أكثر من وعي الزهور بلغة النحل والفراش، في معجمٍ مزدحمٍ بعبق الطبيعة والناس وسلوكياتهم، في استقراء شعري تحلق معه حركات الأشياء وترسم تصاويرُ القصيدةِ إحساسَ ارتباطاته في واقع مليء بشغف اللحظة ودلالاتها، والتي استطاعت أن تشكل بمضامينها الدلالية مدرسةً قائمة بذاتها لها فلسفتها الميتافيزيقية المتشبعة بالإيمان، وبأن الروح الكامنة هي الجوهر الفعّال في حركة الوجود، بنزعة مثالية عالية لقيم الحق والخير والجمال، وتصور الواقع برؤيته الفنية كما ينبغي أن يكون حيث انتقى عناصره التعبيرية من وحي الطبيعة وقام بتشكيلها بعبقريته التصويرية في أزهار فوّاحة وقوالب جديدة تجاوزت باللغة تخوم واقعها الإشاري لتقتحم بها عتبات الإيحاء الدلالي من أوسع أبوابه. تجد في شعره الأصالة والصدق وعمق التجربة ونقاء الفكر وصفاء العاطفة وحرارة الانفعال ورقة الإحساس وشفافية التصوير والخيال وجودة التعبير عن الأفكار وجمال الصورة الموحية؛ يتفرد بالجمال ويتميز بوضوح الفكر والمضمون وبالصورة الفنية الأخاذة والمعنى المشرق الوضاء الذي يشد القلوب ويؤثر في النفوس ويبعث المتعة ويحرك الوجدان ويعبر عن ضمير الأمة ويترجم آمالها وآلامها وأحلامها؛ لأنه نابعٌ من وجدان سليم، وذات مؤمنة وضمير حي وخيال بناء وعواطف مستقيمة، ونفسٍ حرة وذاتٍ صادقة لا تزيف الحقائق ولا تحابي الضلال ولا تعرف النفاق . عُرف بشعره المطبوع المتجذر في أعماق القضية والإنسان والجمال،

حيث امتلك لغة البيان وثقافته ورسالته، لا يجيد الرمز ولا يستخدم القناع، ولم يعرف بالالتواء أو المناورة أو التسيس، فكان لسان المظلومين وصوت الشعب ولوحة الجمال وصدى الأدب الساخر الذي يحوي الفكاهة اللاذعة والطرافة الهادفة، فما من مجلة أدبية أو صحيفة أو إذاعة فيها اسم جحاف إلا اشرأب الجميع بلهفةٍ وشغف؛ لإدراكهم الأكيد بحضور أنفسهم المترافق معه عناصر المتعة وعوامل التشويق. وما بين شواهق حجة وسهول تهامة المترامية الكثبان.. بين امخميس وجبل رأس ينشر جحاف شجنه المندى بعرق الرعاة والفلاحين والجمَّالة ودموع العشاق والمتيمين ويعطر بصبابات لواعجه ورعود آهاته أفق الهيام المشرع على امتداد صفرة الرمل وزرقة السماء. ومن أعلى هرم الروعة والجمال الساحر تتجلى لنا فاتنة الطرب اليمني ودرة أعماقه (عليل امهوى) التي مزج فيها جحاف رمل الأرض وطينها بعرق ودموع البسطاء والغلابى على امتداد ثرى تهامة الجميلة بطيبة ناسها وإرثها الإنساني العريق.

بخطاب حائر يستهل جحاف ملحمته المعطرة بشذى أنغام فنان اليمن الكبيرأيوب طارش عبسي مرسلاً السياق لطائر امغرب وشاعر الشرف صديقه ورفيق دربه حسن الشرفي الذي أحس في قرارة نفسه أن شكوى الحال موجهة إليه. وا طاير امغرب ذي وجَّهت سنَّ امتهايم.. قلبي ضناه امعذاب أحيان في امزيدية واحيان منها وشايم.. شيَّب وعاده شباب سَقِّم أشا اتسايلك واخو امطيور امحوايم.. عسى ترد امجواب كُنْ شي نحاكُن ولي يزهد يوطِّي تمايم.. يفتح لقلبي امكتاب لكل معلول دوى.. دلَّه تحطه يحاوي.. إلا عليل امهوى.. ما شي لجرحه مداوي وامقلب لا كِدْ غوى.. ناخوك ما هاتساوي ومن شاطئ رحب يردد شادي المواويل ألحان الرعاة راسماً شجون المنتهى لوحة عشق على حمرة شفق الغروب. يوم الثلاثاء الموافق 31/5/2016م رحل شاعر الكاذي والفل والرياحين في ظرف تحاصرنا فيه جراح الوطن المذبوح، نعم رحل شاعر الفصحى باقتدار وشاعر اللهجات بتمكن، بعد عمر حافل بالعمل والإبداع والنضال المتواصل، عبر الكلمة والقصيدة، في خندق الثورة والجمهورية والوحدة متفاعلاً مع قضايا الأمة، مجسداً تطلعات الجماهير اليمنية في الحرية والانعتاق من العبودية والاستبداد والطغيان والاستعمار، لكنه سيبقى طائر امغرب يغرد فيطرب الآذان ويبقى كاذي شباط يفوح في معراج القصيدة كلما تربع ذكره الجميل على صدورنا، كل حرف قصيدة وكل قصيدة مملكة كبرى من الإبداع الكبير الذي يسيطر على خطِ سيرِ الوجدان والمشاعر، ويبقى الشعر وكل الشعر تلميذًاً لدى ملك القصيدة علي عبد الرحمن جحاف رحمة الله تغشاه. وداعاً سيد الأحرف البسيطة المنسكبة كغيمات نيسان على ظمأ الخلجات، المضمَّخةِ بالطين والحب والعطر.
نودع برحيلك شاعرَنا القدير حرفاً نابضاً وقيماً سامية ومعاني عظيمة. ليرقد جسدك بسلام، وتحيا روحك النقية بسلام.

 

كتب : محمد أحمد الشميري

المزيد في هذا القسم:

  • روح القصيدة ! المرصاد نت لن يطفئوا روحي ....لأن بداخلي روح القصيدة...تتساقط الأحجار ..والأشعار مازالتمكابرة عنيدة..حملوا اليها الموتفانبعثت بأعمارٍ عديدة ..أن القصيدة مثلما... المرصاد الثقافي