المرصاد نت
لم تكن العلاقات العربية ـ العربية «أخوية» دائماً يسودها الشعور المشترك بوحدة المصير حَجَزت الحدود التي رسمها «المُستعمر» في الغالب الأعم
من خلف ظهر الشعوب الشقيقة، الطموحات والأماني المشتركة. وقد زرع المستعمر فيها مشاعر عدائية متبادلة بين «الأشقاء» حَسَباً ونَسَباً ومصالح، حتى صار تجاوز أي فرد من هذه الدولة إلى تلك، من غير ترخيص وختم على جواز سفره، «اعتداء» على السيادة. صارت الشقيقة الجارة في موقع العدو.
بديهي، والحالة هذه، أن يسقط العداء عن «العدو الأصلي» إسرائيل. فعندما يُصَنَّف الأخوة «أعداء»، تتبدّل صورة «العدو». تغيم ملامحه الأصلية. ننسى حروبه المدمّرة ومجازره المتوالية. ننسى احتلاله فلسطين وتشريد شعبها وتحويله إلى «لاجئين في دول الجوار». تتناقص مشاعر الإخوة بينما تنتعش الكيانية القابلة، دائماً، للتحول إلى شوفينية أو عنصرية.
يعيش «العرب» هذه الأيام، حالة من انفصام الشخصية تدفع بعضهم إلى التبرؤ من عروبتهم. البعض يعتبر العروبة موروثاً آتياً من الماضي، ليس قابلاً للحياة في زمن العولمة. بعض آخر يعتبر العروبة «بدعة»، وكل بدعة ضلالة. بعض ثالث يتطرّف إلى حد اعتبار العروبة «اختراعاً مسيحياً» في تقليد للغرب، حيث كانت «القومية» هي الرابط بين مكوّنات الأوطان وليس الدين. بعضٌ رابع يُحمّل العروبة المسؤولية عما آلت إليه أحوال العرب، فيتنكّر لها ويتهمها بالعقم.
وقد كان «المشرق العربي» هو المنبت أو المصدر، وهو الذي تولى أهله تحويل العروبة من صلات هيولية مرتكزها عاطفي بين الناطقين بالعربية، إلى نظرية فعقيدة اتخذتها الأحزاب السياسية مرتكزاً فكرياً ونهج عمل («حزب البعث العربي الاشتراكي»، «حركة القوميين العرب»..) ثم تسلّقها المغامرون - بالانقلاب العسكري غالباً ـ للوصول إلى السلطة (في سوريا بداية وبعدها في العراق، ثم في اليمن).
لا ينكر أن هذه الأحزاب والقوى السياسية ذات الشعار القومي قد خاضت سنوات طويلة من النضال في الشارع ـ سياسياً - رافعة مطلبها «القومي» الجامع، معارضة «الأنظمة الكيانية»، رافضة الهيمنة الأجنبية، منادية وضاغطة على الأنظمة بمطلب مواجهة إسرائيل لتحرير فلسطين.
وفي البدايات، أي في أواخر الأربعينيات والخمسينيات وحتى الستينيات من القرن الماضي، خاضت الأحزاب والمنظمات القومية (أي العربية) النضال في الشارع حاملة شعاراتها الوحدوية، مناضلة من أجل تحقيق الهدف الذي تبدّى حلماً. وقد شاركت في الانتخابات النيابية، في سوريا على وجه الخصوص، ودخل بعض قيادييها المجلس النيابي. بل إن المناخ كان يسمح بالعمل السياسي حتى لـ «الحزب الشيوعي» في سوريا، وهكذا صار أمينه العام نائباً في دمشق.
وقد وصل تأثير هذه الأحزاب القومية إلى اليمن، شمالاً وجنوباً. وهكذا تولى مناضلون من «حركة القوميين العرب» السلطة في الدولة التي تم تحريرها من الاستعمار البريطاني، فكانت «جمهورية اليمن الديموقراطي» وعاصمتها عدن. وهرب السلاطين الذين كانوا يحكمون «جهات» فيها مع المستعمر البريطاني الذي جلا عنها بعد حقبة استطالت دهراً.
مع إقامة «إسرائيل» بالقوة على أرض فلسطين، سقطت هيبة الأنظمة القائمة، في الدول العربية المحيطة بها. سقطت الجيوش العربية، التي كانت غاية في الضعف، والتي لم تكن تظهر إلا في الاستعراض لمناسبة الأعياد («عيد العرش»، مثلاً، أو ذكرى الاستقلال الخ). وكان بديهياً أن ينتصر المشروع الإسرائيلي المخطط له منذ عقود، والمُعَدّة له «العصابات المسلحة» التي كانت قد سلخت أجزاء مهمة من أرض فلسطين، بالمال، وحوّلتها إلى قواعد في انتظار الحرب التي ستنتهي بهزيمة العرب مجتمعين وإقامة الكيان الإسرائيلي بالقوة، معززاً بقرار من مجلس الأمن الدولي. وهي سابقة في تاريخ هذه المنظمة الدولية، خصوصاً أن القرار اتُخذ بالإجماع، ومن دون أي صوت معارض.
انكشفت غربة الأنظمة القائمة، آنذاك، عن الواقع. كذلك انكشف جهلها بالعدو القومي والمخططات التي كان العمل جارياً لتنفيذها على الأرض، مباشرة بعد احتلال البريطانيين فلسطين في الحرب العالمية الأولى، استناداً إلى «وعد بلفور» الذي كان قد أعطى فلسطين للحركة الصهيونية في العام 1917، أي بعد سنة واحدة من معاهدة «سايكس - بيكو»، التي تقاسم فيها البريطانيون والفرنسيون أقطار المشرق العربي (لبنان، سوريا، العراق.. وكان الأردن جزءاً من سوريا قبل أن يُقتطع ليصير إمارة للأمير عبدالله بن الشريف حسين، مُطلق الرصاصة الأولى باسم «الثورة العربية» بطلب من الانكليز لمواجهة الأتراك).
البعض يُفضّل أن يسمّي هذه «الغربة» تواطؤاً، وله من الأدلة ما يؤكد ادعاؤه.
من الضروري، هنا، الإشارة إلى تقدم الولايات المتحدة للعب دورها في المنطقة، خصوصاً أن إسنادها العسكري للحلفاء كان له الدور الحاسم في الانتصار على «المحور» مع نهايات الحرب العالمية الأولى.
وقد «تصادف» أن كان للرئيس الأميركي اهتمام بالنفط. وهكذا أدخلت السعودية، التي كانت قيد الإنشاء، إلى الخريطة الجديدة للمنطقة، مع «نصيحة» بأن تظل بعيدة عن مشكلات المشرق، وعنوانها فلسطين.
على أن هذا النفط السعودي سيكون المحرك أو الدافع الفعلي لأول انقلاب عسكري في سوريا، قاده الزعيم حسني الزعيم (شتاء 1949)، وهو انقلاب سيُسقط أول رئيس منتخب في الجمهورية السورية حديثة الولادة والاستقلال (شكري القوتلي)، وستكون المخابرات الأميركية هي «المنظّم» و «الموجّه» لهذا التغيير المؤثر.
وستمضي سنوات قبل أن تدرك القيادات العربية مدى الترابط بين الحدثين: الهزيمة في فلسطين، ومشاريع الغرب (أميركا وبريطانيا ومعهما فرنسا ولو بحصة أقل) حول السيطرة على منابع النفط في كل من السعودية وبلاد الشام بعنوان العراق.
أما على المستوى العربي، فستكون الانقلابات العسكرية (أي الالتفات إلى الداخل وتحميل الأنظمة القائمة المسؤولية عن الهزيمة) هي الرد المباشر على فضيحة العجز عن مواجهة المشروع الإسرائيلي.
وسوف تواجه مصر الثورة التي قام بها ضباط قاتلوا فعلاً في فلسطين، الضغوط الأميركية، فضلاً عن الحصار الغربي، لمنعها من تشييد السد العالي في أسوان. و «لتأديبها» شن الغرب، ممثلاً ببريطانيا وفرنسا ومعهما إسرائيل، «العدوان الثلاثي» في خريف العام 1956.
ولقد أثبتت الأمة العربية وحدتها في مواجهة ذلك العدوان، فوقفت جميعاً إلى جانب مصر، من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق. وخرجت الجماهير إلى الشوارع تطالب بتسليحها لتقاتل مع الجيش المصري، ولترد العدوان الإسرائيلي.
ولعل تلك الهبّة كانت بين المقدمات التي أوصلت إلى قيام دولة الوحدة، عبر اندماج مصر وسوريا في «الجمهورية العربية المتحدة».
كان الإنجاز أعظم من أن تتحمل مسؤوليته دول تنقصها القوة، وشعوب ينقصها الوعي، وإن لم تنقصها العاطفة والأمل بإثبات وجودها وتحمل مسؤولية قرارها التاريخي.
وكانت قوى الاستعمار قديمه والجديد (الأميركي) قادرة، بعد، على اللعب على التناقضات بين الأنظمة العربية، التي كان معظمها في موقع «التابع»، إما لتورطه في علاقة مخابراتية وإما لعجزه عن القرار.
أما الجماهير فلم تكن تملك إلا أحلامها. وأما دولها فلم تكن ـ عملياً - دولاً مؤهلة لتحقيق إنجاز تاريخي كالوحدة من شأنها أن تغيّر العالم.
وهكذا تساقطت الأحلام في انتظار قيادة مؤهلة على حملها.
وفي انتظار استكمال ولادة «الأمة»، كانت الأنظمة في مختلف الأقطار تعمل على إجهاض ذلك الإنجاز التاريخي، الذي تطلّب مثيله في الغرب الأوروبي حقبات طويلة من الحروب بين الأديان والمذاهب، قبل أن تتبلور صورة «القوميات» التي سوف تستولد «الدول» بحدودها الراهنة التي رسمت بالدم، في عهود الظلام. بينما «العرب» يتحرّكون تحت الضوء، وأنظمتهم في الغالب الأعم معادية لأحلامهم التي تراها خطراً على وجودها، ولذلك تقاتلهم فيها باعتبارها «بدعة» مجافية للعصر.
العروبة، بهذا المعنى، إنجاز تاريخي عظيم.
ولذلك تُستنفر العصبيات جميعاً، الطائفية والمذهبية والعرقية والجِهَوية لضرب العروبة في المهد، ومنعها من اجتياح حلبة السياسة بذريعة أنها تستنفر وتستدعي الأعداء والخصوم جميعاً، وتمنع «الدول» حديثة الولادة، هزيلة البنيان، من أن تستكمل جاهزيتها لخوض معركة التحرير بالوحدة، أو الوحدة بالتحرير.
وهكذا تغرق الأمة الآن في مستنقع الطائفية والمذهبيات الآخذة إلى الصلح مع إسرائيل، بشروطها، والى التبعية المطلقة للولايات المتحدة باعتبارها «القدر الذي لا رادّ له».
وتبقى الأحلام معلقة في سماء الأرض العربية، في انتظار القادر على تحقيقها، بينما تعمل الأنظمة بالتحالف مع الغرب الأميركي وإسرائيل لاغتيالها وهي في المهد، وقبل أن يتكامل الحلم وتكتسي الفكرة بالقوة المؤهلة على صنع الغد الأفضل.
طلال سلمان - السفير
المزيد في هذا القسم:
- "فظيع جهـل مـا يجـري"! بقلم : د. صادق القاضي المرصاد نت عندما قال "البردوني": أمير النفط .. نحن يداك.. نحن أحدُّ أنيابكْ. لم يكن يتحدث بلسان الحوثي وعفاش للمرشد الإيراني بل بلسان أنصار هادي والمشترك للعا...
- قادمون.. يا قرن الشيطان ! بقلم : علي الدرواني المرصاد نت "قادمون في العام الرابع بمنظوماتنا الصاروخية المتطورة والمتنوعة التي تخترق كل وسائل الحماية الأمريكية وغير الامريكية قادمون في العام الرابع بطائرات...
- الفساد الداخلي وماهيته ! بقلم: رويدا عثمان المرصاد نت لايختلف إثنان على إن الفساد الأداري والمالي يكاد موجود في كل دول العالم ولكن النصيب الأكبر من ذلك الفساد منتشر بشكل جنوني في الدول العربيه والناميه ...
- ولــــد الشيخ ' التــرزي' التــائــه ! بقلم : جمال عامر المرصاد نت لا يزال المبعوث الأممي إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ، في المهمة ذات العلاقة بقضية الصراع في اليمن يقوم بدور “الترزي” أو الخياط الذي يفصل...
- التطبيع الديني إستراتيجية إسرائيلية! المرصاد نت لا غرابة فيما تضمنته تصريحات وزير الأوقاف السعودي عبد اللطيف آل الشيخ من اعتراف بإسرائيل كدولةٍ، والإشادة بمواقفها المتعلقة بالسماح للحجاج الف...
- أخوان اليمن والسقوط المدوي ! بقلم : مصطفى المغربي المرصاد نت لا يخفى ونتيحة للتصعيد السعودي ضد قطر والهجوم الغير مسبوق عليها قد أزيح الستار عن كافة الاقنعة المخبأة لقيادات حزب الاخوان اليمني التي شاركت في حكم...
- رسالة .... مواطن مجروح لشعبه المذبوح ! ما أكثر الرسائل التى ارسلتها الى الوالى .... ولكنى أكتشفت أننى لا أسطر عليها عنوان . أما ..اليوم ... فقدأنتزعت ورقه م...
- فاتحة العهد الجديد ! بقلم : إبراهيم محمد الهمداني المرصاد نت لم تكن ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر 2014م، وليدة لحظتها، او نبتة طارئة في تربة المشهد السياسي اليمني، بل كانت نتيجة طبيعية لما قبلها م...
- الشقيقة الكوبري ! بقلم : عادل الكمالي المرصاد نت من يظن أن السعودية تنوي الخير لليمن فهو أحمق أو جاهل .. مثله مثل ذلك الأحمق الذي ذهب بزوجته إلي أحد المشعوذين ليعالجها من مرض بسيط فإذا بالمشعوذ...
- صوملة بنكهة اللبننة في اليمن يسير اليمن من سيء إلى أسوأ في غياب أيّ تصوّر لما يمكن أن يكون عليه البلد في المستقبل. يعتقد المتفائلون أن البلد سيصير بلدانا عدّة، خصوصا أن هناك شمال الشمال الذ...