اليمن .. والنظام العالمي الجديد ! بقلم : أ. عبد الباسط الحبيشي

المرصاد نتalhobaishi2016.8.27

مقدمة :

قررت القوى المهيمنة على العالم بأن تعتمد نظام إقتصادي جديد وموحد ليتسنى لها إستغلال كل ثرواته المادية والبشرية من خلال تحويل أراضيه ومحيطاته وسمائه الى مستعمرات إستيطانية تتحكم بكل موارده عن طريق تسخير البشر لإدارة وتشغيل هذه المستوطنات لصالح هذه القوى.

لتحقيق هذا التوجه، قامت هذه القوى بإجراء تجارب متدرجة من خلال نصب أنظمة متكاملة قابلة للتطور في بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا وغيرها من دول العالم الجديد وإستنساخ هذه الإنظمة الى دول أخرى عديدة من العالم، وكان العامل المهم لدى هذه القوى هو الإنسان نفسه لأنه القوة المحركة والدافعة والرافعة الأساسية لتحقيق هذه الغاية بيد انه في حالة تعذر إخضاع هذا الإنسان لتنفيذ هذا الطموح فلا مانع من إبادته وأستبداله، وهكذا كان الأمر عندما تم إحتلال القارة الأمريكية، تم إبادة ما يقارب الخمسين مليون نسمة من الهنود الحمر الذين رفضوا التعاطي مع المستعمر الجديد والإنخراط للعمل في مستوطناته التي ستقوم على إحتلال أرضهم، فتم جلب ملايين أخرى من البشر من أفريقيا واروبا وغيرها عوضاً عنهم. كما تم تفعيل هذا النظام الإستعماري الإستيطاني في الكثير من الدول وتم إنشاء العديد من المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والعديد من المنظمات الأممية الأخرى لتغلغل وتسلل وإستشراء هذا النظام العالمي.

ومع ذلك ظلت كثير من دول ومناطق العالم عصية على تقبل آليات هذا النظام. كانت الكنيسة كمؤسسة دينية مسيطرة على مقدرات أوروبا على سبيل المثال، تشكل أكبر المعضلات امام تنفيذ هذا النظام، فدارت حروب طاحنة في إطار المؤسسة الدينية نفسها ومن خارجها إلى ان أنتهت جميعها إلى فصل الدين عن الدولة وبداية نظام الدول العلمانية ومن ثم إنخراطها في النظام الجديد.

إضافة الى أوروبا توجد منطقة الشرق الأوسط التي يقع فيها الوطن العربي والذي كان يرزح تحت النفوذ العثماني لقرابة خمسة قرون ويختلف تماماً في ثقافاته وعاداته وتقاليده عن تلك السائدة في أوروبا او عن تلك الدول المرنة ثقافياً في بقية دول آسيا منها مناطق الشرق الأدنى. لذا فكان من الصعوبة ان يتسلل اليها النظام الجديد دون القيام بسياسات ومخططات وبرامج إستراتيجية تنسحب على عدة قرون من الزمن، فانعقدت إتفاقية (سايسبيكو) لتقسيمه بين بريطانيا وفرنسا لمدة قرن كامل لترويض هذه المنطقة لتسهيل إستدخال بعد ذلك (النظام العالمي الجديد) اليه المصطلح الذي لم يبدأ تداوله حتى الربع الأخير من القرن الماضي.

بقية المقدمة - ١

يؤكد بعض علماء النفس بأن أفضل الطُرق الناجعة لمعالجة أمراض الإدمان بالكحول هي بأن يتم مشاركة المدمن هوايته في تعاطي الكحول حتى الثمالة ثم الإقلاع بشكل تدريجي مع إقناع المُدمن بأن الإقلاع عن هذا الإدمان فيه مصلحة كبيرة تعود للطرفين بعد ان تكون الثقة قد توطدت من قبل المُدمن بالطرف الآخر المُعالج. وعلى غرار ماقاله كارل ماركس بأن "الدين أفيون الشعوب" فقد أعتبرت القوى المهينة على العالم بأن الدين الإسلامي هو أحد العوامل التي تشكل عائقاً امام تمدد هيمنتها وهو كالأفيون المُخدر لشعوب الشرق الأوسط رغم كل ما أعتراه من إختلافات في مذاهبه الطائفية والتعدد في مدارسه الفكرية، ومع ذلك لا يمكن ان تتم السيطرة على الشرق الأوسط وإستدخال مشاريع النظام العالمي الجديد في كافة مفاصله إلا من خلال معالجة هذه الشعوب من الإدمان بالدين الإسلامي.

منطقة الشرق الأوسط ومعها بقية القارة الأفريقية بإستثناء دولة جنوب إفريقيا مؤخراً تشكلا هماً كبيراً للقوى الدولية لإستمكال تنفيذ وتطبيق نظامهم الجديد والإطباق الكلي والنهائي على العالم. لا يمكن ان تظل هذه المنطقة الهامة والشاسعة من العالم خارج نطاق التغطية وخارج نطاق الإستغلال الكامل، ولا يمكن تأسيس وانتشار نظام عالمي جديد مع بقاء جزءاً كبيراً منه خارج إطار هذا النظام. لقد أصبح هذا الأمر ملحاً للغاية ومقلقاً في نفس الوقت لاسيما خلال هذا القرن الحالي الذي بدأت فيه ملامح ثورة جديدة على وشك الإنفجار. ثورة قد يكون من الصعب السيطرة عليها اذا لم يقوم الجميع بالتعاون على مواجهتها. هذه الثورة التي يتوقع الجميع حدوثها خلال الخمسة الى العشرة الأعوام القادمة ستهدم وتفكك كل نماذج وأنظمة العالم القديم او ما تبقى منها سياساً واقتصادياً وعسكرياً وتجارياً وثقافياً واجتماعياً وبالتالي فهي ثورة غير مأمونة الجوانب قد تُدخل العالم في فوضى عارمة لم يسبق له مثيل على مدى التاريخ إن لم يتم الإستعداد لها بشكل كامل.

ولهذا لم يكن إقامة دولة إسرائيل في المنطقة عاملاً أساسياً لجعل منطقة الشرق الأوسط في حالة عدم إستقرار وقلق دائم لشعوبها منذُ منتصف القرن الماضي كما يعتقد الكثير بل كان مجرد عاملاً مساعداً ومُكّملاً لتأسيس نظام قد سبق إقامة دولة إسرائيل بمراحل. هذا النظام هو نظام الإختراق الأساسي لزعزعة وتدمير اي نظام بديل قد ينشاء في هذه المنطقة، التي تشترك بالعديد من القواسم المشتركة مالا يوجد لها مثيل على مستوى العالم، ويعصف بآمال إستكمال بناء النظام العالمي الجديد. زرع النظام السعودي في المنطقة كان هو الخازوق الأساسي ليس فقط للمنطقة كمساحة جغرافية تمتلك ثروات مختلفة كان لابد من بعثرتها والعبث بها وحسب بل ولتدمير الثقافة السائدة فيها وهي الثقافة الإسلامية الحاملة لبذور نهضة المنطقة وتوحيدها والحاضنة لمختلف القوميات المتعددة. ولهذا تم إختراق هذه الثقافة بهذا النظام الذي تحول إلى شريكاً معاقراً مُعطلاً للدين الإسلامي فاق معتنقيه الأساسيين بمراحل بل وتحول الى ناشراً للثقافة نفسها، لكن بعد إعطابها واختراقها وتلقيحها بمئات الأمراض والأوبئة القاتلة، على مستوى العالم فضلاً عن كونه قد أصبح الحام والمدافع عن مقدساتها الذي لا يُشَق له غبار.


بقية المقدمة -٢

وفي المقابل وعلى الضفة الشرقية من الشرق الأوسط ثمة دولتان إقليميتان كبيرتان إيران وتركيا .. إيران تتمتع بحكم ملكي واعد أغلب سكانها من المتعلمين وجيل كامل من حملة شهادات التعليم العالي ودولة تمتلك مقومات ضخمة علاوة الى ان ملكها الشاه كان يمثل شرطي المنطقة وقادر على تربية جميع شيوخ البدو في الجزيرة العربية والحفاظ على توازن المنطقة بالإضافة الى علاقاته الديبلوماسية الطيبة مع الجميع لا سيما مع دول أوروبا وأمريكا. هذا التوجه لم يُعد مطلوباً من قِبل القوى المهيمنة على العالم ولابد من البدء من إحداث التغيرات المناسبة وفقاً لخطة بناء النظام العالمي الجديد، ودون التطرق الى التفاصيل حول الأحداث الداخلية الإيرانية التي أدت الى قيام الثورة ، المهم ان ماحدث لم يؤدي إلى الثورة على النظام وحسب بل وإلى وضع إيران في حالة متناقضة إزاء سياق التطورات الداخلية وإزاء سياق التطورات على مستوى منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. في الداخل تم إفراغها بالكامل من طبقة الإنتلجنسيا التي هاجر معظمها إن لم يكن جميعها الى أوروبا وأمريكا، أما على مستوى الخارج فقد تم وضع إيران في مواجهة فكرية وثقافية وعسكرية مع الدول التي كانت تقوم بدور الشرطي عليها لحفظ أمنها وأستقرارها.

ومن ناحية أخرى وفي شمال إيران الغربي، هناك تقع دولة إقليمية علمانية منافسة ولها تاريخ منافس على المنطقة لكنها ايضاً قد تنازلت عن ذلك وولت وجهها شطر الغرب الذي كانت تحلم وتعمل كل ما بوسعها لتكون عضوة كاملة في الإتحاد الأوروبي، إلا ان هذا ليس هو الدور المطلوب منها من قبل القوى المهيمنة على العالم، فأنقلب معها الحال ايضاً وتحولت الى دولة ثيوقراطية من الطراز الأول لتقف وجهاً لوجه ضد جارتها التي انتهجت رسمياً فكراً مذهبياً مغايراً مع محاولة تصديره لبقية دول المنطقة او إقامة تحالفات جديدة مع الدول التي تشترك معها بالتوجه المذهبي لضمان توازن الصراع في المنطقة.

لا يمكن ان تكتمل هذه الدائرة بدون وجود مصر الدولة العربية الكُبرى التي لا يمكن تجاهلها ولابد ان يكون لها دور في صناعة المستقبل وبالتالي تحديد توجهها إما مع طرفٍ ما من أطراف الصراع او في منطقة وسط قد ربما تكون رمادية من هذه التطورات فضلاً عن انها دولة مؤهلة للعب دور كبير واستراتيجي في معادلة التوازن الكبرى الذي لا ينبغي فيها ان يخسر او ينتصر أي طرف لأن مقتضيات اللعبة هي ان لا يخسر طرف لمصلحة الطرف الآخر او العكس .. إلا ان مصر لم تكن مهيئة بما فيه الكفاية وحتى نهاية القرن المنصرم إضافة الى انه لابد من وجود أسباب منطقية وافية لإقحامها في المعركة القادمة حتى جاء ذلك الموعد .. الربيع العربي.

بقية المقدمة - ٣

مما سبق يتضح لنا بأن ما يحدث في بلداننا لا يتم بمحض الصدفة بل عن تخطيط وسبق إصرار وترصد ينسحب على مدى قرون من الزمن وليس في لحظات طيش او لحظات عابرة، وهذا يعني ان الدول الأعظم في العالم مهما كانت قوتها وجبروتها ليست هي من تصنع الأحداث العابرة للزمن والقارات. الولايات المتحدة الأمريكية - الدولة الأقوى في العالم على سبيل المثال - يتغير فيها الُحكام كل اربعة أعوام او ثمانية أعوام على الأرجح ويتم تعديل الدستور وتطويره بإستمرار مع الإحتفاظ بروح نصه الأصلي القصير فضلاً عن وجود نظام وقانون يحكم كل تصرفات مؤسساتها. سيقول أحدهم لكن تحكمها شركات رأسمالية ضخمة او لديها استراتيجية بعيدة المدى او لوبيات مصالح او هي الشيطان الأكبر التي تسيطر على العالم او او او وما إلى ذلك من هذا الكلام الكبير دون وجود أدلة مادية على ذلك. الجواب هو: انه ايضاً توجد هذه اللوبيات وهذه الخطط الإستراتيجية في دولنا التي تُنفذ على مستوى كل دول العالم مع فارق هو ان ما يحدث في دولنا العربية لهو أشد وأنكى لوجود عصابات ومافيات لا تحكمها أنظمة وقوانين الأرض بل تعتبر نفسها هي الأنظمة وهي القوانين فتقوم هذه العصابات بتنفيذ ما تريده نيابة عن القوى المهيمنة بطرق بربرية ولا إنسانية وفجة ابشع من الفجاجة نفسها.

إذن من يقوم بتنفيذ هذه السياسات الإستراتيجية على مدى قرون وبإتساع العالم ككل ؟ بحيث لا توجد دولة تقع خارج هذا النفوذ. هذه العمليات تقوم بها مؤسسات خاصة تتناقل استراتيجياتها جيل بعد جيل، إستراتجيات تتخطى الحدود والدول وتتخطى الشعوب والأمم. إنها مؤسسات مافوق الدول - الكبيرة والصغيرة - وما فوق الشركات العابرة للقارات ولكنها مع ذلك لا تستطيع ان تتخطى إرادات الشعوب إلا بالقدر التي تتمكن فيه من سرقة هذه الإرادات ومن تكريس الجهل والتخلف. فكلما زاد وتوسع الجهل والتخلف في مجتمعٍ ما، تمكنت فيه من تمرير سياساتها في الظرف والزمن المناسب.

فأين نقف نحن كأمة وشعب من هذا الذي يحدث في بلداننا التي تحولت إلى حقول تجارب ومجتمعاتنا التي تحولت الى حيوانات تجارب بل وأقل قيمة من ذلك بكثير؟ وكيف يتم القيام بذلك بنا وبمحض إرادتنا، بل وكيف نقوم نحن بتنفيذ هذه السياسات كأننا شعوب تُساق الى حتفها تحت تأثير نوع من المخدرات قوية التأثير والمفعول؟.

تقوم هذه المؤسسات الدولية التي تمثل القوى المهيمنة على العالم ليس فقط على صناعة الرأي العام ولا تقتصر فقط على صناعة الرموز بل وايضاً على صناعة إرادة الشعوب نفسها وهنا تكمن الخطورة الكبرى التي يتم عن طريقها سوقنا كالقطعان الى حتفنا، لأن هذه المؤسسات او هذه القوى لا تستطيع ان تقود او ان تفرض علينا سياسات من اي نوع دون ان تسلب إراداتنا كأفراد ومجتمعات، وسنأتي لذلك بالتفصيل في الصفحات والفصول القادمة من خلال وضع (اليمن) كنموذج حي وحاضر ومُعايش لأبشع وأقذر خطة ممنهجة أستطاعت ان تتسلل وتسرق إرادة شعب شامخ وعزيز.

المزيد في هذا القسم: