المرصاد
لماذا لا تنتقل السلطة سلميا وبسلاسة في البلدان العربية ؟ولماذا لا يكون للعرب رؤساء سابقون يعيشون معززون ومكرمون في أوطانهم وبين شعوبهم ؟ ..
هذا هو السؤال الذي نواجهه دائما ، ولا نستطيع الإجابة عليه . وهو سؤالٌ يثير مسألة هامة تتعلق بنوع الديمقراطية ومؤسسات الحكم السائدة في الدول الغربية ، وبنوع طُرق الحكم والأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية والعالم الثالث عموما .
وسأحاول فيما يلي أن اقدم إجتهادا في تفسير ذلك ..
ففي رأيي ، أن الديمقراطية الغربية - على عكس ما يعتقده الكثيرون - قد تحولت او تحورّت مع الزمن ، وأصبحت ، اليوم ، وسيلة فاعلة لخدمة " الديكتاتورية المؤسسية " ( وهذا المصطلح - الديكتاتورية المؤسسية - ربما يبدو غريبا لأنه يجمع بين شقين متناقضين ، فكيف تكون ديكتاتورية ومؤسسية في نفس الوقت ؟ ولكنني أقصد ان أوربا قد انتقلت ، عبر تطور طويل ، من ديكتاتورية الأفراد إلى ديكتاتورية المؤسسات أو الشركات !! ) ..
هذا هو الحال الآن في دول أوروبا وفي أمريكا حيث أصبحت " الديكتاتورية " مؤسسة بيروقراطية ضخمة ، أو قل أنها قد أصبحت ديكتاتورية مؤسسية متقدمة وذكية ، ولها أجهزتها التي توظف أفضل العقول وأفضل الاختراعات العلمية في خدمة أهدافها ، بينما " الديكتاتوريات العربية " لا زالت في طور تطورها الأول ، أي انها لازالت متمثلة بفرد أو أسرة أو ايدولوجيا حزبية أو دينية حاكمة .
ولكي أوضح هذه الفكرة ، دعوني أحاول الاجابة على السؤال الذي أشرتُ اليه في البداية :
لماذا تنتقل السلطة سلميا وبسلاسة في الديمقراطيات العريقة ( بريطانيا أو أمريكا مثلا) ولا تنتقل بنفس الطريقة في المنطقة العربية ؟؟
الجواب : لأن الديكتاتوريات المؤسسية في الغرب ، التي تسمي بالنظم الديمقراطية ، قد أصبحت ثابته وراسخة بما يكفي ، فالديكتاتورية هناك ( التي هي القوة النافذة المتمثلة ب : تحالف راس المال ، الصناعات العسكرية ، الشركات فوق القومية ، الاعلام ، الخ ...) هي التي تصنع رموزها وممثليها ، ثم تقوم بتقديمهم / تسويقهم / الى المجتمع ( الذي أصبحت حاجاته الأساسية من الأمن والغذاء والعمل مشبعة إلى حد كبير ) من خلال الأحزاب السياسية كمرشحين ، والأحزاب السياسية ذاتها ، بوجهيها المحافظ والليبرالي ، هي أيضا منتجات أو أدوات لنفس المؤسسة الراسمالية الحاكمة .
ما يقوم به الناخبون هناك في كل دورة انتخابية ، هو اختيار أحد المرشحين الذين سبق اختيارهم ، أو على الأقل عدم الإعتراض عليهم ، من قبل (المؤسسة ) ، مع العلم ان كل واحد من هؤلاء المرشحين صالح تماما لتمثيل المؤسسة ومصالحها في حالة فوزة ..
ويعتقد الناخبون العاديون انهم يختارون ممثليهم الى المجالس النيابية أو لرئاسة الدولة ، بينما هم في الواقع يقومون بالمفاضلة بين المرشحين الذين سبق أن اختارتهم ( المؤسسة ) - ولو بشكل ضمني - وقامت بتسويقهم إعلاميا للناخبين ، لذلك تنتقل السلطة سلميا من يد فريق قديم الى يد فريق جديد يمثل نفس المؤسسة ويؤمل أن يخدمها بشكل أفضل ..
أي ان فريق الإدارة هو الذي يتغير بينما ( المؤسسة ) ومبادؤها ثابته وراسخة . لهذا يذهب اوباما ، وياتي ترامب ، كلٌ تبعا لقدراته وفي التوقيت الصحيح ، لأن أجهزة ( المؤسسة) العليا هي التي ترسم استراتيجياتها ، وتحدد - في كل مرحلة - من هو الفريق الأمثل والأجدر بتمثيل تلك المصالح ، مع مراعاة المستجدات ومزاج وتطلعات الناس في كل دورة انتخابية جديدة .
بكلمة واحدة : القادة السياسيون في الديمقراطيات الغربية هم موظفون مختارون بعناية فائقة لخدمة ( المؤسسة ) الحاكمة . في الوقت الذي يعتقد فيه الناس العاديون ( الزبائن في السوق السياسية ممن تغيب عنهم الصورة الكبيرة ) انهم منخرطون في عملية ديمقراطية لاختيار من يمثل ارادتهم في المجالس النيابية أو في رئاسة السلطة التنفيذية .
أما في المنطقة العربية ، حيث الديكتاتورية لا تزال في طور تطورها الأول ، فانها تكون مجسدة في فرد واحد ، أو في اسرة واحدة ، او في أيدولوجيا - سياسية او دينية- يمثلها حزب واحد ، هنا يصبح الفرد ، أو الأسرة او الحزب هو ( المؤسسة الحاكمة) وبالتالي فان تغيير الفرد يعني تغيير ( المؤسسة) ذاتها ، بما يستتبع ذلك من عدم استقرار واضطراب ناتج عن تنافس الأفراد ومراكز القوى من أجل الاستحواذ على السلطة والثروة .
في النموذج الأول : الديكتاتورية المؤسسية المتطورة ( النظم الديمقراطية ) تنتقل السلطة ، بمعنى الإدارة ، سلميا وبسلاسة لأن قوانين وآليات انتقال السلطة محددة سلفا من قبل ( مؤسسة الحكم ) التي يخدمها الجميع ، لهذا ذهبت إدارة اوباما وجاءت إدارة ترامب ...
في النموذج الثاني : الديكتاتورية في العالم الثالث ( التي يسمونها الأنظمة القمعية ) لا تنتقل السلطة سلميا ولا بسلاسة ، لأن الحاكم الفرد أو الاسرة او الحزب ، هو نفسه ( المؤسسة) وذهاب الحاكم يعني اندثار المؤسسة ودخول المجتمع في دورة جديدة من العنف الذي يقتضيه الصراع على السلطة .
ملاحظتي الأخيرة هنا ، هي ان الديكتاتوريات في العالم الثالث ، من أجل المحافظة على بقائها ، ولأنها تفتقر الى القاعدة الجماهيرية والى البناء المؤسسي والى القدرة على تلبية الحاجات الأساسية للناس ، تقوم بالارتباط وظيفيا بالديكتاتوريات المتطورة ، بأن تضع نفسها في خدمتها مقابل أن تقوم الأخيرة بدعمها وحمايتها ، والصورة الأكثر شيوعا التي تخدم بها ديكتاتوريات العالم الثالث ، الديكتاتوريات الغربية المؤسسية هي : أن تضع اقتصادياتها ومؤسساتها الوطنية وأجهزتها في خدمة اقتصاديات ومصالح تلك الدول .
إضافة :
و بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط ، يبدو أن الإيرانيين وحدهم هم الذين أستطاعوا - خلال العقود الأربعة المنصرمة - تطوير " مؤسسة دينية حاكمة " تُحاكي في وظائفها " المؤسسة الديمقراطية الرأسمالية " ، حيث شهدنا انتقالا سلميا للسلطة في ايران ، عدة مرات ، في اطار نفس " المؤسسة الدينية " التي كانت تُقدم للناخبين ، في كل انتخابات رئاسية إثنين من المتنافسين ، أحدهما بوجه محافظ أو مُتشدّد ، والآخر بوجه مُعتدل أو ( ليبرالي ) ، ولكن كل منهما محل رضا " الديكتاتورية الدينية " بوصفها ( المؤسسة الحاكمة ) ..
وفي اعتقادي ، أن نجاح ( المؤسسة الديمقراطية الرأسمالية ) ، طويل الأجل ، يعود ، في الأساس ، الى أنها قد أتاحت الحرية الفردية بشكل يكاد يكون مطلقا ( حرية الفرد في مجاله الخاص جدا ) بينما بسطت نفوذها على الفضاء الاجتماعي العام ..
كما أن مرونة هذه المؤسسة وواقعيتها وقدرتها على تطبيق معايير التقويم الذاتي ، من المرجح أن يمكنها من الاستمرار وربما نشهد في المستقبل غير البعيد رأسمالية ب " قلب " و " ضمير " و" مشاعر " الى جانب العقل والعضلات ..
بينما " مؤسسة الحُكم الدينية " في نموذجها الإيراني ، غير مقدر لها - على الأرجح - ان تستمر طويلا ، ويرجع ذلك ، في الأساس ، أنها لا تكتفي ببسط نفوذها على الفضاء الإجتماعي العام ، بل تتدخل في الحيز المُتصل بالحياة الخاصة للأفراد ، وهو ما يعني أن قوة دفعها - مثل كل الديكتاتوريات الأيدولوجية ، السياسية والدينية - ستتناقص وتضمحل قبل أن تندثر نهائيا في نهاية المطاف . *
كتب : د . ياسين الشيباني
المزيد في هذا القسم:
- اليمن والقتل بكاتم أخلاق لم تعُد تعني الحياة شيئاً في وطن يتدحرج بخطى حثيثة نحو مستنقع الجريمة بوصفها باقة يومية وباقة أسبوعية وباقة شهرية لمجرمين ينتظرون الفوز بالجائزة الكبرى .. و...
- إما أميركا… وإما القدس! بقلم : إبراهيم الأمين المرصاد نت ما فعله دونالد ترامب أمس قد يكون الفرصة الأنسب لتثبيت الموقف من أصل المشروع الاستعماري الاستيطاني الذي يحمل اسم «إسرائيل». أميركا التي ع...
- حرب اليمن التي اقتلعت جيلين من المثقفين! المرصاد نت الحب – بالمعنى العام – ليست نفياً وتهديداً للحالة الإنسانية فحسب بل هي إحلال للرصاصة محل الكلمة وجعل القوة فوق الحق وتسويد للعنف الأعمى...
- يكرهون الانفصال الفدراليون لا يعرفون ما هي وجهتهم. لست داهشا حيال مهزلة التصويت في موفنبيك التي صارت نتيجتها أغلبية أو إجماع بحسب توجهات وسائل الإعلام الحكومية وتلك التابعة للق...
- تحولات المشهد السياسي اليمني ! بقلم : إبراهيم محمد الهمداني المرصاد نت 2- الاتفاق السياسي والمجلس السياسي الأعلى... نحو الشراكة الإيجابية ودولة المؤسسات حاول تحالف العدوان استثمار المفاوضات في المماطلة والإيهام بالبحث...
- الغضب يعم الشارع اليمني بسبب محاولة جر اليمن إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني! المرصاد نت لم تكن الصوره بريئه أبدآ في وضع وزير الخارجيه التابع للمدعو عبدربه منصور هادي القابع في فنادق الرياض منذ أربع سنوات متوسطآ مايك بومبيو وزير خارجيه ...
- الله مش في هذه الأماكن ...؟! ليس من صفات الله الفضلى ولا من أسمائه الله الحسنى : الحاشد الى عمران ، والحاشد الى دماج ، والحاشد الى القاعدة ..والحاشد الى إنتخابات زور، والحاشد للهف انتخابات ...
- الموت الصاخب ! بقلم : أزال الجاوي المرصاد نت من ادب الشعوب الامريكية الاصلية (الهنود الحمر) انهم يقسمون الناس الى ثلاثة : شجعان وحكماء وعامة (اغبياء) فالفئة الاولى تسعى للحياة المش...
- خادم الحرمين من يخدم من الملك فهد او من سمى نفسه خادم الحرمين الشريفين, في الثمانينات ,ولما مات اخذ التسمية منه الملك عبدالله ,لكني تأملت للتسمية ,والفعل المطابق لها فوجدتها بعيدة كل ا...
- الكويت .. وطن يفاوض العالم !بقلم : علي جاحز المرصاد نت عاد وفدنا الوطني إلى الكويت مجددا عودة الواثق الذي يحمل بين جوانحه الوطن كل الوطن الوطن بانتصاراته وصموده وشموخه وأيضا مآسيه وجراحه وأو...