المرصاد نت
نشرت الدراسة كاملة في مجلة مقاربة سياسية /العدد الثاني
بالاسترشاد بالفرضيات السابقة في الحلقة الثانية ؛ نستعرض هنا جماعة أنصار الله على مستويين:
مستوى الخطاب: ونعني به المنظومة الفكرية والمعرفية التي تحدد هوية الجماعة، وأهدافها كما تضمنتها محاضرات السيد حسين بدر الدين الحوثي التي كان يلقيها على مريديه، وتعد المرشد النظري والحركي لأنصار الله، إضافة إلى ما يصدر عن خلَفه في القيادة السيد عبد الملك الحوثي من تعليمات وتوجيهات وخطابات( ).
مستوى الحركة أو الجماعة: ونعني بها التجلي الخارجي للخطاب بعد أن تتبناه كتلة اجتماعية أو بشرية في صيرورتها المستمرة الحاصلة عن جدل الخطاب والواقع الموضوعي، المجتمع بناه ومؤسساته، صراعاته، ظروفه، مطالبه، أولوياته، ضروراته.
أولاً: الخطاب ثنائية التخلف / النهضة
أدبيات أنصار الله تبين أن السؤال المركزي لخطاب السيد حسين الحوثي هو كيف يمكن تجاوز حالة التناقض والبؤس وثقافة الاختلاف؟ وأن القضية الجوهرية فيه هي ثنائية (التخلف / النهضة)، الثنائية المركزية في خطاب الإصلاحية الإسلامية في القرن الثامن عشر والتي برزت على إثر الصدمة الحضارية للحداثة الغربية حين فتح العرب والمسلمون أعينهم على الهوة الحضارية التي تفصل الشرق الإسلامي عن الغرب المتقدم على جميع المستويات الفكرية والسياسية والعسكرية والصناعية، وحالة التخلف الشاملة للشرق الإسلامي، وكانت بمثابة المهماز الذي أيقض العقل العربي والإسلامي من سباته الحضاري( ).
وفي سبيل الإجابة على ثنائية (التخلف / النهضة) تولد خطابان إصلاحيان:
الأول: خطاب علماني مستغرب يرى أن الإسلام غير قابل للإصلاح؛ مهما أُدخلت عليه من تعديلات؛ لأنَّ التدهور كامن في جوهرة الاجتماعي، ولا سبيل للنهضة إلا العلمنة، كخيار وحيد اعتمدته أوروبا في نهضتها الحديثة( ).
والآخر: خطاب الإصلاحية الإسلامي بقيادة جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخيرالدين التونسي، والكواكبي دافع: إن الإصلاح الإسلامي ممكنٌ، بل ضروريٌ؛ لتجاوز حالة الجمود والتردي الشامل، وينحون باللائمة على الجمود الفكري، وإقصاء العقل وإغلاق باب الاجتهاد، وتجاوز الأزمة لن يكون إلا بالعودة بالإسلام لحالة نقائه الأول، وتحرير العقل الإسلامي من القيود التي تكبل نشاطه، وفتح باب الاجتهاد والتجديد كأهم أدوات الإصلاح.
الجيل الجديد من الحداثيين( ) يتفق مع التيار الإصلاحي في اعتماد العقل والاجتهاد أهم أدوات الإصلاح والتجديد الدينيين غير أنهما يفترقان في تحديد مضامينها وحدود وظائفها، فالتجديد والاجتهاد في الخطاب الإصلاحي هو مجرد استنباط من النصوص أو عمل لغوي سيميائي، والعقل كل مهمته استثمار النص، في حين يتجاوز التجديد - عند التيار الحداثي - مفهوم الاجتهاد التراثي في حدوده ومناهجه، ويتعدى التجديد في المضمون إلى التجديد في المنهج والشريعة إلى القصد، وعدم الاجتهاد فيما فيه نص إلى إعادة قراءة النص، النص ذاته عند أصحاب هذا الاتجاه ليس نظاماً مغلقاً وإنماً مشروعات متجددة قابلة للاكتشاف والفحص والتأويل ومن خلال هذا التجدد والحركة يتجدد الفعل ذاته وتتطور آلياته وتصبح في جدل مستمر وخلاق".( )
تشخيص الحوثي للأزمة
سياق ظهور الخطاب الحوثي يختلف عن سياق خطاب الإصلاحية الإسلامية عند عبده والأفغاني القادمين من بيئة دينية، وموروث ديني يقصي العقل، ويغلق باب الاجتهاد، وفي سياق عالمي مبهور بالحداثة الغربية كأيديولوجيا كونية للنهضة؛ ولذلك كان أول ما فكرت فيه لتجاوز الجمود والتخلف؛ إعادة الاعتبار للعقل، وفتح باب التجديد والاجتهاد في الدين بهدف المواءمة مع الحداثة الغربية، بينما الحوثي نشأ في بيئة زيدية تمجد العقل، وتحرم التقليد، وتوجب الاجتهاد لكل من يجمع شرائطه، وعالمياً في سياق الهجمة الحضارية والعسكرية للعولمة النيوليبرالية.
ورغم اختلاف السياقين ومرور أكثر من قرن ونصف القرن على خطاب النهضة والإصلاح بكل تنويعاته، ظلت ثنائية التخلف / النهضة تراوح مكانها بل تعمقت أكثر، وبقي هم النهضة والإصلاح القاسم المشترك، والسؤال الذي كان يؤرق الحوثي، لماذا أخفقت كل محاولات الإصلاح والتجديد؟ وهل أدى إعادة الاعتبار للعقل كمصدر للمعرفة الدينية، وفتح باب الاجتهاد الديني إلى تحقيق النهضة التي تطلع لها رواد الإصلاحية الإسلامية؟ وهل الخلل في المضمون أم المنهج؟ ما السبيل لمعالجة الأزمة الفكرية والثقافية والتشريعية، وحالة الخلاف والتنابذ التي أنهكت قدرات الأمة، واستنزفتها في صراعات تدميرية، وصرفت قدراتها، وجهودها الفكرية والمعرفة في غير مجالها؟ كيف يمكن بناء أمة صلبة، وتشكيل كتلة تاريخية تكون نواة لمشروع النهضة؟ وهل القرآن مصدر الخلاف والسجال الديني (التناقض الإسلامي - الإسلامي)، وما يتبعه من صراعات سياسية واجتماعية؟ هل الخطاب القرآني قادر على حسم الخلاف؟ وإعادة توحيد الأمة الإسلامية؟ وهل التأويل العقلاني والتفسير بالأثر والأساليب اللغوية قادر على رفع التناقض والغموض في النصوص الدينية؟ هل النصوص الدينية سيما القرآن قاصرة ذاتياً عن انتاج المعنى والدلالة على المقصود الديني؟ وهل تحتاج لتدخل المجتهد لإنتاج المعنى؟ كيف يمكن وضع ضوابط منهجية ترفع الغموض واللبس المفترض في النصوص الدينية، وتحد من الاستثمار السيئ للنص؟
يخلص السيد حسين الحوثي في إجابته على هذه الأسئلة إلى تشخيص أهم أبعاد الأزمة في الاختلالات البنائية لمناهج الفكر الديني التي انعكست في الاجتماع السياسي للمسلمين على شكل متوالية من الأزمات؛ أزمة ثقافية، أزمة تشريعية، أزمة سياسية، أزمة نفسية، أزمة طائفية ...إلخ، ويلقي باللائمة على النظام المعرفي التقليدي في استمرار بقاء المسلمين في حالة أزمة مزمنة، ويتهمه بالجناية على الدين، والتسبب في اهتزاز الثقة بالخطاب القرآني، حيث معظم آياته - وفقاً لهذا النظام - نصوص ظنية قاصرة عن إنتاج اليقين الدلالي والنفسي والموضوعي.
التراث بمفهومه الواسع - سواء آليات التأويل، ومناهج القراءة، وتحليل النص - رموز دينية وتيارات دينية وتجارب تاريخية تحولت إلى سياجات معرفية أعاقت فهم الخطاب القرآني عن تحقيق وظيفته الأساسية في إخراج أمة نموذجية، وأسهمت في إعادة إنتاج الواقع المتخلف والوضعية السيئة والفوضى التشريعية، والتأسيس لألوان من الاحتراب والصراع والتنابذ وأشكال من التدين، كالتديُّن المنصرف عن الحياة ) )، والتدين الطائفي، والاجتهادات العصابية وفتاوي التفكير.
ولذلك نقد المناهج التقليدية نقداً قاسياً، وعلى رأسها المنهج الكلامي والفقهي، وبرر ذلك بقوله: "عندما ننقد فنوناً معينة من تراثنا، أو كتباً معينة من تراثنا، ومن تراث هذه الأمة بصورة عامة، هو لأن الوضعية هذه أصبحت وضعية خطيرة، لم يعد مقبولاً أن تجامل أحداً فيها". دعا إلى ضرورة التحرر من أهم فنين في المناهج التراثية، ما يسمى بعلم أصول الفقه، وما يسمى بفن علم الكلام.
القرآن "بحر هدى، وبحر حق"؛ لكن كما يقول الحوثي: "هذا البحر مشبّك (مسيج) عليه".( ) لذا أول خطوة في الإصلاح هي نزع هذه السياجات المنهجية، وإعادة تقييمها، والتحرر من التصورات الموثة باعتبارها حقائق غير قابلة للنقاش.
بقلم : عبدالملك العجري
المزيد في هذا القسم:
- اللجان الثورية الجنوبية وأنصار الله ! بقلم : أ.عبدالباسط الحبيشي المرصاد نت لم يُكن لأنصار الله كمكون سياسي مليشوي ثوري اي وجود في مايو من عام ١٩٩٠ عندما تم تحقيق الهدف الخامس من أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة...
- (أنا) ورحلة البحث عن وطن ! بقلم : الشيخ عبد المنان السنبلي المرصاد نت في إحدى فنادق الرياض بعد أن وصلت في وقتٍ متأخرٍ إلى هناك، ها أنا الآن أحمل حقيبتي على كتفي وأُقادُ إلى إحدى الغرف التي يُفترض أن تكون مقر إقامتي ال...
- حكومة الولاده المتعسره ! بقلم: ابراهيم محمد جعدار المرصاد نت يترقب ويتابع اليمانيون بين الحين والآخر وبفارغ الصبر دق الناقوس بإعلان تشكيل الحكومة اليمنية الذي أصبحت الحلم المنشود والملاك المنقذ لكل فئات ...
- المجازر السعودية المنسية في اليمن ! بقلم : د . عصام العماد المرصاد نت كثير من المجازر السعودية المنسية في اليمن التي جرت خلال عامين من العدوان السعودي على الشعب اليمني و ما زالت تجري إلى هذه اللحظة تحت ظل عاصفة الحزم ...
- هل ذهب أوباما إلى الرياض ليوقع شهادة وفاة العلاقة الاستراتيجية بين البلدين ؟ بقلم : عبدال... المرصاد نت لا نعرف بالضبط كيف كان اللقاء “التاريخي” بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وضيفه الامريكي باراك اوباما وربما نحتاج ...
- المريض وعقدته !! "نحن من واقع الشعور بالمسؤلية و الحرص على المصلحة سنسعى على الحفاظ على اللحمة الوطنية و العيش المشترك و الاحترام المتبادل و نمد يد السلام و الاخاء و من يعض يد...
- القائد الفيلسوف .. والزلزال القادم ! بقلم :علي احمد جاحز المرصاد نت بين حين وآخر ينشغل التاريخ الانساني بتدوين مرحلة فاصلة تحدث زلزالا تغييريا يمتد تأثيره وتداعياته الى ابعد الامكنة ومن البديهي ان ذلك الزلزال له بؤر...
- كلنا يمنين وكلنا مسلمين وكلنا أحرار ! بقلم : صلاح القرشي المرصاد نت هذه الصورة المقززة ارسل لي بها احد اصدقائي في الفيسبوك من احدى الدول العربية الشقيقة ودار نقاش كبير بيننا .قلنا إن الهدف الاول لثورة 26من سبتمبر ال...
- رسالة الى القمة العربية نداء وتنبيه للقيادات العربيه من رؤساء وملوك وامراء ومشيخات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد لقد فوتم فرصه ذهبيه كبيره في العقود الخمسة الأخيرة من القرن ا...
- تابوهات الإصلاح تقف عائقاً أمام المصالحة الوطنية ( ا - 3 ) .. رغم الإصطفاف الذي برزت معالمه مؤخراً , والفرز الجديد الذي شكّله الواقع واتضاح الرؤية والضرورة السياسية حالياً الذي تبدو فيه جميع القوى السياسية شديدة الشبه والت...