المرصاد نت
يفاجئ الحراك الشعبي العربي الجديد المراقب البعيد، ولكنه يؤكد للمراقب عن قرب أن استمرار الاستبداد والفساد والتخلف الاقتصادي والسياسي يولد ما وصلت إليه الشعوب العربية، سواء أواخر العقد الأول من هذا القرن، أم مطلع نهاية العقد الثاني. رغم أن كلا المراقبين لا يخلوان من المعطيات والوقائع، وربما الحقائق المرّة. وفي كل الأحوال، فإن واقع الحال هو المصدر الرئيس لما سبّب الحراك الشعبي العربي الجديد، وعلينا قراءته أيضا كما سبق لنا مع ما سبق. وليس المهم هنا التسميات أو ما يردد من عناوين قد لا تتطابق مع الحال إلا في التوصيف الإعلامي أو تثير إغراءات مكبوتة عند أكثر من طرف من أطراف الواقع العربي أو من يريد له أن يكون.
ما يجري من حراك جديد في السودان والجزائر خصوصاً هذه الأيام، وما يتداعى منه في خارج هذين البلدين، ينطق بما يوصل إلى أن الأجيال الشابة الجديدة في الوطن العربي مستعدة للتضحية والفداء ولتقديم أمثلة على ضرورة التغيير والتواصل مع المتغيرات المحيطة أو البعيدة عنها، بحثاً عن مكان لها في أوطانها لا في المهاجر والمنافي. فإذا مرّت موجة التغييرات عند جيرانهم، في تونس ومصر أولاً وانتكست في غيرها، مثل اليمن وليبيا، وتراجعت في بلدان اخرى، الا أن الواضح أن ما جرى تمّ في جمهوريات عربية، حكمتها سلطات انتقلت بها أو واصلت الانتقال والانقلاب من الاستعمار والاحتلال إلى رحاب التحرر الوطني. لكنها، كما هو واضح، لم تنجز كل المهمات المطلوبة، أو خيبت الآمال باستمرارها في التحكم في السلطة والتشبث بها، (الرئيس السوداني حكم 30 عاماً، والجزائري 20 عاماً) وممارسة أساليب ديكتاتورية وتسلط واستبداد، الأمر الذي حولها الى موضوع التغيير والإنقاذ منها لإعادة الأمل لهذه الشعوب والبلدان في التحرر والتنمية والتقدم.
تمكّنت هذه السلطات بالذات من بناء أجهزة دولة عميقة من دون التفكير في تأسيس مؤسسات دولة حقيقية قادرة على الوقوف بقدراتها وطاقاتها وإمكانياتها الكبيرة، والتي تنكرت حتى لبياناتها الاولى أو لخطبها السياسية الاولى. كما أفسحت في المجال أمام تكوين طبقة سياسية حاكمة، حاشية لا يهمها غير مصالحها الأنانية المباشرة، حتى لو كان لها اسم حزب أو مجلس شعب أو حكومة رسمية، تحيط بموقع الرئيس وتثرى من خلال علاقتها به عبر وسائل الفساد والاختلاس والنهب والاحتكار والتضخم الفردي على حساب الأغلبية الشعبية والطبقات الاجتماعية التي هي وقود الثورة والدولة والحاضر والمستقبل في هذه البلدان عموماً. والأبشع فيها رضاها عن نفسها وإنكار توحشها واستهتارها بحقوق الإنسان والمواطن وكرامته، بل قبول التمييز عن الشعب والابتهاج بتكديس الثروات ورفع نياشين المناصب والالقاب والتصديق بها من دون إدراك الفروق الطبقية والاجتماعية والاقتصادية والتغييرات في المجتمع التي أحدثتها أو سبّبتها، والعمى أمام التحولات الإقليمية والدولية. وهذه عوامل كامنة أو ظاهرة تتجمع وتتراكم وتتفاقم وتغلي كالمرجل أو أشد منه في المجتمع.
إن عدد سكان السودان والجزائر يبلغ أكثر من أربعين مليون مواطن لكل منهما، وأكثر من نصفهم هم من الأجيال الشابة دون سن الخامسة والعشرين عاماً، وأغلبهم بلا عمل منتج ولا قدرات اقتصادية كافية للعيش الكريم، وترى الأغلبية منهم تبذير ثروات بلادها والفساد والإفساد والتسلط والاستبداد لمجموعات الرئيسين والسلطة المتمثلة فيهما ـــ عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة ـــ وكل منهما تجاوز الحد الاقصى بإمكانياته في الحكم والعدل والبناء، مع بعض الأوصاف أو الترتيب في درجات الحكم والمواقف والقرارات الوطنية أو السياسية لكل منهما.
ليس بالضرورة التشابه الكامل بين الحالتين، لكن هناك ما يجمع بينهما أو يربط عوامل الأوضاع المشتركة والدفع في إشعال الحراك الشعبي الجديد، وصعود تموجاته ومطالبه واستمراره. ووصول الأمر لدى الحراك الى المطالبة الصريحة بتغيير النظام كاملاً، وليس إطاحة رأسه وحده، كما حصل الآن. وكان أبرز تشابه بين البلدين هو تدخل قيادة القوات المسلحة في ضبط إدارة النظام والحفاظ على الأمن والسلم الأهلي بحدود ما أهّلها ليس للتدخل وفرض رؤيتها وحسب، بل ومحاولة فرض الأمر الواقع الجديد على المشهد السياسي وطبيعة التغيير.
محاولات القيادات العسكرية فرض رؤيتها، سواء دستورياً أم جذرياً، كما تعلن احياناً، تصبّ كلها في محاولات التهدئة الداخلية وربما الخارجية بحدود التأثر والتأثير أو التداخل والتكليف. ولكل منها ثمنه الشعبي والوطني. إلا أن استمرار الحراك الشعبي السلمي يفرض نفسه أيضاً ويدفع الى الإصغاء الى مطالبه المتصاعدة والسعي إلى التغيير الجذري في حدود المصالح الوطنية والقومية وإعادة بناء دولة حديثة مستفيدة من دروس الماضي وتجارب الحراك الشعبي العربي.
حصل في تونس ومصر في الحراك والثورة الشعبية إزالة رؤوس السلطة وإجراء خطوات إيجابية أولية في عملية الإصلاح والتحديث، ولكن التجربة التاريخية لهما، وما زالت أمامنا، لم تنجز الأهداف الأساسية من الثورة والتغيير، بل ثمة ردة أو انتكاس صريح، حتى لما كان أو أسوأ منه، ما يعني ضياع الفرص والتضحيات وغياب تحمل المسؤولية شعبياً وعند قوى سياسية شاركت أو أسهمت في الحراك وأهداف التغيير.
لعل أبرز ما يضعف الحراك الشعبي العربي الأساسي، ويوفر مناخات ارتداد عن الثورة والتغيير، بأي أسلوب من الاساليب المطروحة، ويكاد يعطل سير الحراك وتضييع التضحيات الشعبية من أجله، يكمن في عدم تبلور قيادة سياسية معلنة من الحراك الشعبي واتفاقها على برامج عمل الحراك الشعبي وإنجاز الأهداف المنشودة منه، والاستفادة من الطاقات والقدرات الشعبية، الشبابية والنسائية، والقاعدة الثورية في المؤسسة العسكرية والأحزاب السياسية المعارضة والقادرة على وضع كفاحها الوطني التاريخي في خدمة الحراك الشعبي وأهدافه في التغيير الديمقراطي البنّاء.
وهنا قد يختلف الوضع في السودان مثلا عن الجزائر. حيث تتوافر هيئة سياسية معلنة مكوّنة من نقابات وشخصيات وطنية معروفة وقوى سياسية، تموضعت تحت عنوان قوى إعلان الحرية والتغيير، لها امتداداتها الشعبية وقدراتها على التحشيد الشعبي وإدارة النضال الوطني ورفع الشعارات المرحلية والإصرار على الأهداف الأساسية من كل الحراك الشعبي والخطوات المحققة عملياً الى الآن، وهي ساعية لأخذ دور القيادة والتعبير عن إرادة الحراك والتغيير. وما زالت الجزائر تخطو في هذا الاتجاه، مع رؤية القيادة العسكرية الهادفة إلى تفعيل الدستور ومراحل الإصلاح وتشابك القدرات والطاقات في مرحلة صعبة من الحراك الشعبي العربي الجديد. ولا بد أن تصبّ كل الخطوات الجارية في النهاية لعملية تغيير مطلوبة في هذين البلدين ومستقبل الحراك الشعبي عموماً، في بناء دولة ديمقراطية مدنية وسيادة حكم القانون والمواطنة.
كتب : كاظم الموسوي- كاتب عراقي
المزيد في هذا القسم:
- المارد اليمني لن يعود ابدا الى القُمقُم السعودي قبل عام وفي مثل هذه الايام شنت السعودية ودول مجلس التعاون عدا سلطنة عمان حربا ظالمة على الشعب اليمني الاعزل دون ادنى مبرر، خلفت دمارا شاملا في جميع مناحي الح...
- ثورة "فبراير" الخالدة ! بقلم : أ. عبدالملك الحجري* المرصاد نت لا فرق بين من يسميها انقلاب أو من يسميها نكبة , فاتركوه يسميها هو وعصابته "نكبه" لأنها بالفعل نكبة عليه فهي من خلعته وعرت ماضيه الاسود الملطخ بالدم...
- لماذا المراوحة ؟؟؟؟ التأخير والإطالة بخصوص تنفيذ اتفاق السلم والشراكة وتشكيل الحكومة الوطنية يتم المراوحة فيه لاستكمال سياسات الأزمات والحنبات والأمر الواقع وإجراء ممارسا...
- لصوص الشرعيه ! و شرعيه اللصوص ؟! بقلم : د:علي الطائفي المرصاد نت هكذا هو حال الدنبوع و حثالته القابعين في فنادق الرياض .. (بالضبط ) فبعد أن عجزوا أن يسرقوا الشرعيه من شعبنا اليمني الأبي و بعد أن تلقوا تلك الصفعه...
- ما بعد 21 سبتمبر ليس مثل ما قبله ! بقلم : أمة الملك الخاشب المرصاد نت ها هي الذكرى السنوية الثانية لثورة الواحد والعشرين من سبتمبر 2014م تمّر علينا، الثورة التي كانت بداية تاريخ جديد ومرحلة جديدة بالنسبة لليمن حيث ومن...
- قمة الـسقوط والكـوميديا السوداء ! بقلم : عبدالله صبري المرصاد نت - انحطاط غير مسبوق تعيشه الأنظمة العربية والإسلامية ومن حولها من نخب ثقافية وإعلامية وعلمائية، وهي تحتفي وتهلل لزيارة ترامب إلى الرياض وللقمة الأمري...
- حماية بلا ثمن ! بقلم : حميد دلهام المرصاد نت سابقة خطيرة وغير مسبوقة في الأعراف الدبلوماسية أن يخرج رئيس دولة عظمى - ولثلاث مرات متتالية - بخطابه المهين لملك دولة حليفه وتربط دولتيهما علاقة اس...
- يومان استراتيجيان ! بقلم : زيد أحمد الغرسي المرصاد نت تأتي زيارة هادي وعلي محسن الاحمر لمأرب في يوم الأحد 10-7-2017م والتي استغرقت عدة ساعات فقط لتحقيق عدة أهداف كان منها التغطية على الهزائم التي يتلقو...
- من هيلاري إلى كارين .. السؤال الكبير : ماهو برنامج الحوثي ؟ (1-2) قامت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون بزيارة مفاجئة لصنعاء يوم الثلاثاء 8 فبراير 2011م أي قبل يومين فقط من الجمعة التي تنح...
- الرئيس هادي والحراك عالقان بالمأزق اليمني المبادرة الخليجية وآليتها المزمنة طرحت كحل لأزمة الحكم في صنعاء التي فجرها صراع الرئيس صالح والجنرال محسن علي السلطة والثروة , الأمر الذي جعل مخرجات حوار فندق م...